صحافة

ذكرى مجزرة الغوطة: أيّ روابط مع الساحل والسويداء؟

صبحي حديدي

المشاركة
ذكرى مجزرة الغوطة: أيّ روابط مع الساحل والسويداء؟

مآذن عديدة، في أرجاء سوريا عموماً وفي العاصمة دمشق وضواحيها خصوصاً، صدحت ليل أمس بتكبيرات اتسمت أيضاً بتعدّد في النصّ والنبرة والرسالة القصدية؛ وذلك على سبيل إحياء الذكرى الـ12 للضربة الكيميائية التي نفذها النظام السوري ضدّ الغوطتين الشرقية والغربية. وكما بات معروفاً، نُفّذت الضربة في الساعات الأولى من يوم 21 آب (آغسطس) 2013، واستخدم النظام خلالها صواريخ تحتوي على غاز السارين، وأسفرت عن 1400 ضحية، ولسوف يقول تقرير صادر عن "مجلس حقوق الإنسان" التابع للأمم المتحدة، صدر لاحقاً في سنة 2014: "استُخدمت كميات كبيرة من غاز السارين في هجوم خُطّط له جيداً لاستهداف مناطق مأهولة بالمدنيين، مما تسبب في خسائر بشرية كبيرة".

ومنذ ابتداء ذلك العام، ارتكب جيش النظام السوري سلسلة مجازر وحشية، بينها في شهر كانون الثاني (يناير) مصرع 87 من طلاب جامعة حلب و106 من أبناء حمص بينهم نساء وأطفال قُتلوا حرقاً أو بالسلاح الأبيض، والعثور على 80 جثة في نهر قويق، حيّ بستان القصر في حلب؛ وفي شباط (فبراير) مقتل 83 من المدنيين، بعضهم سقط جراء تفجير قرب مقرّ حزب البعث في دمشق؛ وفي نيسان (أبريل) أكثر من 483، بينهم نساء وأطفال، في مجزرة "جديدة الفضل" التي ارتكبتها وحدات الحرس الجمهوري؛ وفي أيار (مايو) إعدام قرابة 50 من السجناء في سجن حلب المركزي، ومقتل 145 رمياً بالرصاص في مدينة بانياس الساحلية؛ وفي حزيران (يونيو) مجزرة سقط خلالها 191 مواطناً في قرية "رسم النفل" من ريف حلب…

غير أنّ ذكرى مجزرة الغوطتين تحلّ هذا العام والنظام الذي ارتكبها انهار تباعاً وتفكك وسقط خلال زمن قياسي، الأمر الذي يعطي للاستعادة صفات خاصة عديدة، رمزية وإنسانية في المقام الأوّل، لا تخلو أيضاً من أبعاد سياسية تربط ذاكرة الماضي بالحاضر والمستقبل بالنظر إلى أوضاع شتى متقاطعة في سوريا الجديدة الراهنة. ولعلّ البعد الثقافوي لن يغيب أيضاً، حتى إذا كان الترجيحات لا تنتظر علوّ أصوات تردّد أصداء أدونيس (لماذا التكبيرات من المآذن، على غرار استنكار خروج مظاهرات احتجاج 2011 من المساجد، مثلاً)؛ أو أصوات تنشغل بالسجال حول منع الموديل العارية في كلية الفنون الجميلة (وهل القرار من الأسد الأب، أم زاده وريثُه سوءاً على سوء، أم اتخذته سلطات الشرع الحاكمة اليوم بأمرها).

وقد يصحّ، حتى يثبت العكس ربما، الافتراض بأنّ غاز السارين وأيّ من شقيقاته الكيميائيات لم يُستخدم في مجازر الساحل السوري، مطلع آذار (مارس) الماضي، سواء من فلول النظام التي دشنت التحرّك العسكري العنفي، أو من فصائل موالية للسلطة الانتقالية ردّت بانتهاكات وفظائع، قد ترقى إلى جرائم حرب على الطرفين معاً؛ ولا في معارك السويداء ومجازرها، حيث تماثلت الحال بمعدلات أقلّ أو أكثر، لدى القوى الموالية أو ميليشيات الشيخ حكمت الهجري. غير أنّ وتائر المأساة، ودماء الأبرياء التي أريقت، والجراح التي انقلبت سريعاً إلى شروخ عظمى في الجسد الوطني السوري لن تندمل بيسر أو في زمن قريب مرئي… كلها، وسواها، عناصرهيهات لها أن تحجب واقع، أو على الأقلّ الحقّ في، ربط الغوطتين 2013 بالساحل والسويداء 2025.

الأكثر تشاطراً، والأشدّ سطحية استطراداً، سوف يكون ذلك الرأي الذي يضع نظام "الحركة التصحيحية" وسلطات الشرع الانتقالية في خانة تشابه، أو حتى إعادة إنتاج ميكانيكية؛ ليس من وحي استخدام العنف وارتكاب المجازر (إذْ أنّ البراهين المتوفرة هنا لن تسعف القائل بهذه الخلاصة) بل اتكاء على أصعدة أخرى عمادها العقائد الجهادية والإسلاموية، أو السلوك الطائفي معلَناً أو مضمراً، أو التعطش للثأر من جماعات سبق لبعض أبنائها أن تورطوا في فظائع خلال خدمتهم في صفوف النظام الساقط؛ أو (ولعلها حالة مثلى!) الانفراد بالحكم، وارتكاب الأخطاء، والإعلان الدستوري القاصر، والتملّق للغرب، والتفاوض غير المباشر مع دولة الاحتلال، وما إلى ذلك كثير ومتشعب.

أكثر انحيازاً إلى معطيات ملموسة فعلية، ضمن منهجية في السياسية لا تستند على ما هو مستوهَم قبل، أو بعد، معطيات الأمر الواقع على أرض السورية فريدة التعقيد والتشاكل والتناقض والتقاطع؛ سوف يكون ذلك الرأي الذي لا يقرّ التماثل بين آل الأسد وآل الشرع، في الحكم كما في شبكات الولاء، وفي الآن ذاته لا يستعبد تسخير أدوات العنف على اختلاف ضروبها لتمكين السلطة وحراسة بيتها وتحصين قلاعها؛ حتى حين لا يكون السارين خياراً مطروحاً بالضرورة، أو على سلّم أولويات الردع والسيطرة. في عبارة أخرى، قد يصحّ وطنياً بادئ ذي بدء وضع مجازر الغوطتين 2013 نصب أعين السوريين، عند تحليل مجازر الساحل والسويداء 2025؛ ولكن ليس عبر نظرة خرقاء قوامها التمييز بين سيئ وأسوأ، بقدر التبصّر المعمّق في طبائع السلطة خلف الانتهاكات، وأنها ليست محض عربدة طائفية أو جهادية بقدر ما تبدأ من، وتنتهي أيضاً إلى، معمار سياسي واجتماعي وإيديولوجي محرِّك وناظم.

النظرة ذاتها يتوجب أن تقرأ سلسلة أنساق التناظر ودلالاتها، بين ردود أفعال قوى عظمى إقليمية أو دولية على مجزرة الغوطتين، مقابل التعاطي مع مجازر الساحل والسويداء؛ ليس لأغراض فضح الكيل بأكثر من مكيال تجاه الملفّين فحسب، بل كذلك لاستقراء السياسات الذرائعية التي كانت تحكم النظرة إلى نظام "الحركة التصحيحية" بالمقارنة مع السلطات الانتقالية الراهنة في سوريا الجديدة. وللمرء أن يدع دولة الاحتلال الإسرائيلي جانباً، إذْ أنَ إشفاق بنيامين نتنياهو على دروز السويداء ليست له سابقة، حتى رمزية، على امتداد مئات المجازر التي ارتكبها النظام السوري الساقط منذ انتفاضة 2011 ضدّ عشرات المدن والبلدات والقرى في سوريا. وبالتالي فإن معادلة نتنياهو مع الشرع لا تبدأ من الأقليات عموماً، ولا تنتهي عند ما تبقى في الترسانة العسكرية السورية من صواريخ ودبابات ومدافع.

الأجدر بالتأمل هو ما وقعت فيه إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما من تخبط إزاء قصف الغوطتين بالأسلحة الكيميائية، حيث بدأ الارتباك من زلّة لسان أوباما بصدد "خطّ أحمر" تجاوزه النظام السوري، ومرّ بالضجيج حول ضربة عسكرية عقابية، ثمّ سوء التخطيط لها، ورداءة إدارتها سياسياً وإعلامياً وعسكرياً، ومع الكونغرس والحليف البريطاني… إلى أن انتهت الحال بصفقة روسية تضع ترسانة النظام السوري من الأسلحة الكيميائية قيد الرقابة الدولية، والتخلص منها نهائياً… الأمر الذي لم يتحقق، بالطبع. السنوات التالية بعد 2013 شهدت فصولاً دراماتيكية من التعامل مع النظام السوري، سواء لجهة مغازلته والتمهيد لإعادة التطبيع معه، أو لجهة مسارعة كتّاب ومعلّقين في الغرب إلى تبرئته من الضربة الكيميائية ذاتها!

للمرء أن يتخيل ما ستكون عليه الحال اليوم لو أنّ أنصار الشرع اتُهموا باستخدام غاز السارين في بيت عانا ـ محافظة اللاذقية (مسقط رأس "النمر" مجرم الحرب سهيل الحسن) أو في السويداء (حيث "ضريح" حزار دير الزور عصام زهر الدين)؛ وهل كانت فرنسا ستكتفي باستقبال موفق طريف شيخ عقل الدروز في دولة الاحتلال، كي يفاوض باسم دروز سوريا؛ أو أن يذهب أتباع الشيخ الهجري إلى رفع صورة نتنياهو نفسه، وليس علم الاحتلال وحده؛ أو أن تُزال مفردة "المسلمين" عن توصيف الموحدين الدروز، في قلب السويداء؛ أو، أخيراً وليس آخراً، ألا يُكتفى بمنع مئذنة مسجد السويداء من التكبير في ذكرى قصف الغوطتين بالسارين، بل أن… تُقصف المئذنة ذاتها!

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن