هذان المفهومان هما في قلب فهم التجارب التاريخية الانسانية، لأنهما يُحدّدان نمط تعاطينا مع الماضي، وكذا توجّهنا نحو المستقبل، إذ في خضم حقل التجربة الخاصة بالحاضر، يتأطّر أفق انتظارنا وكذا قراءتنا للماضي:
ــ فهل نعي اليوم منطوق الأنطمة التاريخية لإمكانية تقدّم مجتمعاتنا؟
ــ ألا يمكن القول إنّ السياق العربي يعاني من فجوة بين واقع التجربة التاريخية الراهنة وأفق المأمول ممّا يعطّل تقدّمه؟
تجربة الزمن الخاصة بكلّ مجتمع يحدّدها نمط استحضار ماضيه وطريقة تصوّر مستقبله
يبدو أنّ ما نعاينه اليوم هو أننا إزاء تجربة تاريخية لتشييد ذاكرة حيّة لعصر يسائل التاريخ ويُؤسس في الوقت نفسه لهويته التاريخية المنفتحة على المستقبل، حيث تتسارع وتيرة التحوّل بشكل مذهل ومقلق أيضًا، كلّ هذا أدّى إلى حدوث تفاوت كبير بين الماضي والمستقبل في مستوى الوعي بالزمن.
يحيلنا هذا الوضع على القراءة المميّزة التي قدّمها المؤرخ الألماني راينهارت كوزيليك حيث اعتبر أنّ تجربة الزمن الخاصة بكلّ مجتمع يحدّدها نمط استدعاء أو استحضار الماضي الخاص بهذه المجتمعات، وكذا طريقة تصوّر مستقبلها المؤطر بالجانبين اللغوي والسوسيوسياسي، وهذه تتأسس بالضرورة على مقولتين أساسيتين هما حقل التجربة وأفق الانتظار، فالمستقبل تحدّده فعالية الحاضر، إنها نوع من الأنثروبولوجيا التاريخية التي تحدّد الأنظمة التاريخية المترجمة لتقدّم المجتمعات.
هل نعي واقع الأنظمة التاريخية لتقدّم المجتمعات أم يختلط علينا الماضي بالحاضر؟ ألا يدعو الأمر لإثارة المعجم المفهومي لسياق هذا الراهن العربي في إطار قراءة نقدية تؤسِّس لهوية المفاهيم الخاصة بحقل تجاربنا التاريخية؟
غالبًا ما نستحضر ماضينا بالكثير من التمجيد المغرق في التعويم، مما يجعلنا لا نسطر آفاقًا نقدية إزاء هذا الماضي، اذ لنسطر آفاقنا أو آمالنا الانتظارية وجبَ أن نقيم مسافة بين التجربة التاريخية المعبّرة عن نظام من المفاهيم السوسيوسياسية التي تستجيب لتلك التجربة التاريخية في زمنيتها، وبين واقع السياق التاريخي المؤطر بالجانب اللغوي والسوسيوسياسي لهذا الحاضر، وعملية توليد سياق زمني جديد رهين بالمسافة ما بين حقل التجربة المعاشة والمأمول تحققه.
التجربة التاريخية ترتبط فعاليتها بآلية التغيير
إنّ الوعي بهكذا شروط يسمح بتجاوز أزمات المجتمعات ويساهم أيضًا في تحقيق تقدّمها، لأنها تعي بشكل جيد أفقها الانتظاري، حتى وإن لم يتحقق كما تم تسطريه قبلًا.
فمثلًا عقيدة التقدّم الحداثية، رفعت سقف توقعاتها أو أفق انتظارها بالمقارنة مع حقل تجاربها مما خلق أزمة غير متوقعة، وهي الأزمة التي لاحت بوادرها خلال بداية القرن العشرين، فتغيّرت البنية اللغوية والسوسيوسياسية للتجربة الما بعد حداثية.
آلية تقدّم المجتمعات تكمن بالأساس في فهم هذه العلاقة، لأننا نبني التاريخ في راهنيته، ومنه نطلق الأحكام على اتجاهين: ما نتركه وراءنا (الماضي)، وما نتوعد أنفسنا باستقباله (المستقبل). إذ لكي يصير أفق الانتظار أحد الممكنات المستقبلية وجب تزكيته بالفعل / العمل، بما يتوافق ومتطلبات الحاضر، أن يخضع الراهن لحركية الفعل القادر على التغيير، لأنّ التجربة التاريخية ترتبط فعاليتها بآلية التغيير فيما يخص أسلوب التحولات التي تحدث بشكل عميق مؤثرة بذلك في مجرى التاريخ.
ثمة أربع مهام على الأقل ينبغي للمفكر العربي المعاصر أن يهتمّ بها:
ــ أن يتعرّف على المفاهيم الضرورية لتوصيف بنية التاريخ، فلكلّ تجربة تاريخية بنيتها المفهومية التي يؤطرها الجانب اللغوي والسوسيوسياسي لمجتمع معين، إذ يعكس المفهوم حركية ودينامية مميزة، قد تحتلّ ضمن تجربة تاريخية مرتبة المركز وقد يتم تهميشها في تجربة تاريخية لاحقة.
ــ أن يُحدّد هذه المفاهيم من خلال السياقات الاجتماعية والخطابات السياسية والصراعات التي تدور في الحقبة نفسها / العصر نفسه، فالمفاهيم قد يستجد مضمونها الدلالي وقد يتمّ أيضًا استحداث مفاهيم تلائم سياق التجربة التاريخية المراد التعبير عنها. على سبيل المثال، تثار اليوم إمكانية خلق اتحاد أو اتحادات عربية بدل وحدة أو وطن عربي، هذا التمييز يعكس تغييرًا مضمونيًا وكذا أفقًا انتظاريًا مغايرًا عمّا كان من قبل.
ــ أن يقيم رؤية نقدية لهذه المفاهيم المتنوعة من زاوية خصوصيتها التحليلية للتاريخ، فمن أجل فهم الأنماط المفسّرة لتقدم المجتمعات نحتاج، أو يجب أن نستعين بمعجم يقودنا للحديث عما يُعبر عن واقع تجربتنا التاريخية: كيفية إدراك هذه المفاهيم، طريقة توظيفها، وكذا حمولتها اللغوية والسوسيوسياسية.
ــ رصد المعاني الكامنة في التجارب التاريخية، فكلمات مثل: قومية، عروبة، وطن، لا تعكس الدلالة نفسها عبر التجارب التاريخية التي مرّت أو عبّرت عنها، وفي التمييز بين مجمل هذه المعاني نستكشف التغيير في التعاطي مع الأزمنة التاريخية لكل سياق زمني.
(خاص "عروبة 22")