يكفي أن نتذكر المليون ونصف المليون شهيد في الجزائر، وملايين الأفارقة الذين راحوا ضحية للاستعمار الأوروبي لكي نتبين أننا نجتاز مرحلة تاريخية صعبة ينبغي أن نستجمع قوانا فيها، ونوحدها كي تنتهي بانتصار تاريخي بإذن الله.
وتارة أخرى تتهم هذه العناصر المقاومة بالعمالة لإيران ولإسرائيل باعتبار أنّ ما فعلته وتفعله يحقق أهدافهما بالمنطقة، وكأن العقلاء الذين ارتضوا الحلول الدبلوماسية الوهمية قد حققوا عبر العقود الماضية أي إنجاز، بينما أحدثت المقاومة في أقل من عام داخل إسرائيل وفي الساحة الدولية تغيّرات نوعية غير مسبوقة تقرب يوم التحرير لو أُحسن استغلالها، واكتملت الشروط الموضوعية فلسطينيًا وعربيًا لذلك.
تمت معارك التحرر الوطني العربية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته في ظل دعم عربي كامل وفعال
وتارة ثالثة تعادي المقاومة باعتبارها فصيلًا من جماعة "الإخوان المسلمين"، وكأنه لا يوجد شيء يُسَمَّى بالتناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، وكأن فصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة والضفة بما فيها عناصر من "فتح" لا تشارك كلها في صنع الملحمة الجارية على أرض فلسطين منذ قرابة العام.
لم يكن هذا هو موقف النظام العربي تقليديًا من مقاومة الاحتلال، فقد تمت معارك التحرر الوطني العربية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته في ظل دعم عربي كامل وفعال، وبالذات من مصر التي كانت تقود بزعامة عبد الناصر حركة المد القومي والتحرر الأفريقي آنذاك، وظل هذا الموقف قائمًا حتى بعد هزيمة ١٩٦٧ التي كان صعود المقاومة الفلسطينية أحد نتائجها، ثم مرت في نهر النظام العربي مياه كثيرة تحول فيها دعم المقاومة الفلسطينية إلى "حالة لفظية"، وعلى أحسن الفروض دعم مالي غير أكيد، ثم بدأت ظاهرة الاعتراض على الفصائل المقاومة لإسرائيل لأسباب طائفية كما في حالة "حزب الله" الذي نظرت له بعض القوى العربية باعتباره "حالة شيعية" تابعة لإيران، وتجلى هذا بوضوح في عدوان إسرائيل على لبنان ٢٠٠٦ الذي اعتبرت فيه تلك القوى ما فعله "حزب الله" عملًا غير محسوب يعرّض مصالح الدول العربية كافة للخطر، وانعكس هذا في قرارات مجلس وزراء الخارجية العرب الذي انعقد بعد العدوان، والتي عكست تلك النظرة الخاطئة للمقاومة، غير أنّ الجماهير العربية حينها بوعيها وإدراكها لأولوية النضال ضد المشروع الصهيوني تكفلت بحركتها الهادرة تأييدًا للمقاومة بتصحيح المسار، خاصة وقد كان أداؤها لافتًا في ساحة القتال، فعقد المجلس دورة ثانية اختفت منها نبرة النقد للمقاومة، وتم تشكيل وفد عربي شارك في مداولات مجلس الأمن التي أفضت للقرار ١٧٠١ الذي مكّن صمود المقاومة المفاوض العربي من تحسين صيغته الأولية.
يُذكر للشعب الفلسطيني تمييزه بين قضيته الوطنية مع العدو الصهيوني وخلافه السياسي مع هذا الفصيل أو ذاك
وفي هذه الجولة لم تترك الوحشية الإسرائيلية في الرد على عملية ٧ أكتوبر/تشرين الأول، بل والممارسات الإسرائيلية قبلها، مجالًا لجهة عربية رسمية كي تنتقد علنًا سلوك المقاومة، غير أنّ الغمز بدأ وتواصل بوسائل أخرى عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وفقًا للحجج السابقة التي استعرضتها في بداية المقالة، ومع استمرار الخسائر الفلسطينية بشريًا وماديًا على نحو فادح بدأ هذا الغمز يستقوي، خاصة وأنّ الاعتراض على سلوك المقاومة أتى من عناصر وقوى فلسطينية أيضًا بما فيها السلطة "الوطنية" الفلسطينية التي شاركت في الضغط على المقاومة لوقف القتال، واتهمتها بأنها توفر الذريعة لإسرائيل لارتكاب جرائمها، وكأنها لا ترتكب هذه الجرائم على نحو ممنهج منذ نشأتها، وأفهم أن يمتد هذا الاعتراض إلى مواطنين فلسطينيين عاديين لا ينتمون لـ"حماس" أو غيرها من الفصائل المشاركة في القتال، وإن كان يُذكر لعموم الشعب الفلسطيني في غزّة والضفة صموده الأسطوري، وإيمانه الراسخ بقضيته وحقوقه، وتمييزه بين قضيته الوطنية التي يصطدم فيها مع العدو الصهيوني وخلافه السياسي مع هذا الفصيل أو ذاك، ووجدت وسائل إعلام عربية بعينها في هذا المناخ فرصة سانحة للتصويب على المقاومة.
ولقد استوقفني بالذات شريط مصور بثته إحدى الفضائيات لرجل مكلوم يصيح بأعلى صوته "خلصونا من حماس قبل أن تخلصونا من العدو الإسرائيلي"، ومفهوم أن يتفوه مواطن فلسطيني بهذه العبارة في ظل معاناة تتجاوز طاقة البشر، لكن غير المفهوم أن تروج لها فضائية عربية بكل ما تنطوي عليه من خلط للأولويات ومساهمة في تقويض ثمار نضال المقاومة قرابة عام كامل، ويحتاج العمل لمواجهة هذه التوجهات إمعانًا للفكر يستحق نقاشًا تفصيليًا.
(خاص "عروبة 22")