مراجعات

مذكرات "رقيب" مُعلن في الوطن العربي: تونس نموذجًا

الرقابة في الأصل والمعنى تقييد لحرية التعبير والتصدي للمحرمات الأزلية الثلاثة: الدين والسياسة والجنس، وهي ممارسة قديمة، لكنها راهنًا مارستها كل الأنظمة باختلاف طبيعتها وتوجهاتها الإيديولوجية والسياسية، وإن بتفاوت من دولة إلى أخرى حسب درجة انفتاحها واحترامها لحرية التعبير والنشر.

مذكرات

قد تكون الأقطار العربية من بين أكثر البلدان في العالم التي تمارَس فيها الرقابة على مختلف أنواع الإبداع، ورغم قِدَمِ هذه الوظيفة في المنطقة، غير أنّ آليات ممارستها ظلت مجهولة كما القائمين عليها وبها. ومن هنا تأتي أهمية كتاب أنس الشابي "مذكرات رقيب كتب: من التعليم الدّيني إلى مواجهة النهضة واليسار الإسلامي" (أركاديا، تونس، 2024)، ليكشف لأول مرّة رقيب كتب، في العالم العربي، البعض من تفاصيل هذه المهمة في فترة تميّزت بصراع حاد بين السلطة السياسية في تونس وحركة "النهضة" ذات المرجعية الإسلامية.

أغلب الرقباء الذين سبقوه كانوا من الإداريين لا علاقة لهم بالوسط الثقافي

تأتي أهمية الكتاب أيضًا من شخصية هذا الرقيب الاستثنائي، فهو رقيبٌ ولكنه في الأصل كاتبٌ ومثقّفٌ ومختصٌ في قضايا الدين، سعى للوصول إلى تلك المهمة على خلفية قناعة سياسية وإيديولوجية وليست وظيفية، خاصّة أنّ أغلب الرقباء الذين سبقوه كانوا من الإداريين لا علاقة لهم بالوسط الثقافي.

تناول المؤلف، في القسم الأول (15- 140) عدّة عناصر تتعلّق بنشأته وتكوينه العلمي ونشاطه العام ورأيه في مؤسّسة جامعة الزيتونة وما أطلِق عليه "معركة مادة التربية الإسلامية" ذات العلاقة بالإصلاح التربوي الذي باشره الوزير محمد الشرفي (ذو أصول فكرية يسارية) وكيفية تصدي الكاتب لنشاط ما يُعرف بـ"اليسار الإسلامي"، خاصّة بعد أن تمّ تعيين أحد أبرز منظّريه في تونس، الأستاذ الجامعي احميدة النيفر، في مهمة إصلاح مادة التربية الإسلامية.

أمّا القسم الثاني (ص 143-273) فتناول الظروف والأسباب التي دفعت باتجاه تعيين الكاتب رقيبًا للكتاب في وزارة الثقافة ثم في وزارة الداخلية وأهم عمليات الرقابة والمصادرة التي قام بها بين الفترة الممتدة من 1995 - 1999.

والكاتب من أسرة محافظة ومتديّنة، درس في كلية الشريعة وأصول الدين، "الزيتونة"، وعرف خلال هذه الفترة تحوّلًا فكريًا بعد الاطلاع على مجموعة من الكتب التي اهتمت بنقد التراث العربي الإسلامي لمفكرين بارزين كصادق جلال العظم وحسين مروة وبندلي الجوزي ومحمود أمين العالم ومهدي عامل، وبتأثير هذه المعرفة الجديدة انضم الكاتب للحزب الشيوعي التونسي بعد الاعتراف القانوني به في سنة 1981، إلّا أنّ الحزب خيّب ظنه على خلفية موقفه من التيار الديني وتعامله مع الاتجاه الإسلامي، أو حزب "النهضة" لاحقًا، فغادره سنة 1985، ليعود إلى الكتابة في الصحف العامة، إلى أن حدث الانقلاب الصحيّ الذي قام به الوزير الأول زين العابدين بن عليّ ضد الرئيس الحبيب بورقيبة يوم 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، ودخلت البلاد طورًا جديدًا من الحكم.

كان الكاتب يُدرّس مادة التربية الإسلامية في المعاهد الثانوية وله اعتراضات مُعلنة على المحاور المقررة عبّر عنها في عشرات المقالات والدراسات في الصحافة معارضًا توجه لجنة إصلاح تلك المادة مادة، ورغم جهده الفكري تمّ استبعاده من المشاركة في الإصلاح التربوي الذي يُفسّره بـ"خشية الوزير من أن يقع اتهامه بالاستعانة" بمن يطلقون عليهم "الاستئصاليين". ورغم توتر علاقته بالوزير غير أنّه ربط علاقة وطيدة مع كاتب الدولة للتربية الذي أصبح مستشاره الخاص في مسائل التربية الإسلامية بصورة سرية ومع تولي هذا الأخير وزارة الثقافة كلّفه بمراقبة رصيد مكتبات المطالعة العمومية، وعددها 300 مكتبة، فقام بمصادرة العديد من الكتب ذات المنزع الإسلامي المُسَيّس.

هدف الكاتب من هذه المذكرات تقديم نموذج للقرارات السياسية التي اتُخِذت إبان المعركة مع حركة النهضة

أمّا عدد الكتب التي أمر بمصادرتها لكتّاب ينتمون للتيارات الإسلامية من غير التونسيين، فكانت محدودة كما يقول وهي مورّدة من بعض الدول العربية في حين لم يصادر من الكتب التونسية إلّا عددًا محدودًا لا يتجاوز عدد أصابع اليد، وتعود لأكاديميين تونسيين مختصين في الحضارة لا ينتمون للتيارات الإسلامية أساسًا مثل عبد المجيد الشرفي وآمال القرامي.

ذكر الكاتب هدفه من كتابة هذه المذكرات، وهي بالأساس تصحيح الكثير من الأوهام الرائجة حول الذي قام به لمواجهة حركة "النهضة" إعلاميًا وسياسيًا وتوفير معطيات حول القرارات السياسية التي اتُخِذت إبّان المعركة مع حركة النهضة في مختلف مراحلها، وتوفير الوثائق التي حرّرها بالإضافة إلى تقديم نموذج للقرارات السياسية التي اتُخِذت إبان المعركة مع حركة النهضة، مضيفًا أنّ مهمته بنيت على قناعة فكرية انطلق فيها منذ 1981 أي منذ تأسيس حركة "الاتجاه الإسلامي"، ولم تكن رقابته للكتاب دفاعًا عن مواقف السلطة فحسب، بل كانت للدفاع عن قيم آمن بها وظلّ متمسّكًا بها حتى بعد إبعاده عن وظيفة الرقابة، كما يعتبر أنّ "الرقابة ليست فعلًا أخلاقيًا حتى توصف بالسمعة السيئة أو الحسنة، بل هي في حالتي واجب نضالي مساهمةً مني من موقع القرار حماية للمجتمع".

قد تساعد هذه المذكرات في تقديم معطيات مفيدة لكيفية إدارة النظام صراعه مع حركة "النهضة" على الصعيد الثقافي والفكري، ولكن رغم أهميتها وأهمية الوثائق المرفقة في هذه المذكرات التي قد تساعد على فهم جزء من فترة حكم زين العابدين بن عليّ التي وُصِفت بالاستبداد وبالصراع مع التيار الإسلامي نفسه، غير أنّ ذلك يتطلب شهادات لمن تعرّض إنتاجه للمصادرة وخاصّة الذين ينتمون للمعارضة المدنية السياسية والحقوقية التي كانت بدورها ضحية تلك المنظومة من ناحية، وبعض الأطراف التي ساهمت في هذه العملية من ناحية أخرى حتى تُجرى عملية "مكافحة" هذه الآراء والمواقف بعضها ببعض لتكون الاستنتاجات موضوعية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن