فهل مجتمعاتنا تقاوم أسباب هذا العجز والضعف؟.. الإجابة باختصار: نعم، الناس تقاوم فعلًا، لكن بقدر قليل من الهمّة والعافية.
نعود ونسأل: لماذا قلّة الهمّة وضعف العافية في مقاومة جمهور الأمّة للاستبداد الذي أخّرهم وأتعب أوطانهم؟!. هذا السؤال إجابته صعبة ومعقدة وتضيق المساحة المتاحة عن عرضها جميعًا، فالسبب ليس واحدًا بل حزمة من الأسباب بعضها اقتصادي والبعض الآخر ثقافي واجتماعي وتربوي وتعليمي، وتضافرت كلها معًا وتمكنت بطول الزمن من صنع سبيكة محبطات نادرة أقعدت قطاعات واسعة من جمهورنا عن مقاومة الاستبداد بقوة الهمّة اللازمة، رغم أنّ أغلبيتهم الساحقة باتت تدرك حقيقة العلاقة الحميمة بين فقدان الحرية وبؤس أحوالهم المعيشية!!.
عدد من الأفلام المصرية حاول صُنّاعها تكريس صورة المستبد الحنون الطيّب "أبو الشعب"
ولأنّ المساحة ضيّقة، فلا سبيل لنا سوى تفكيك هذه الأسباب وانتخاب بعض أهمها.. ولنبدأ بالعامل الثقافي، وبدوره نفككه، بادئين بواحده من أخطر ما نملكه من مكونات القوة الناعمة ألا وهي "السينما"، ونسأل مباشرة: هل كان للسينما المصرية، باعتبارها الأكبر والأهم في كل صناعة السينما العربية، إسهام حقيقي في مجابهة الاستبداد والانتصار لقضية الديمقراطية في مجتمعنا العربي المعاصر؟!.
الإجابة بكلمة واحدة "لا"، بل لعل العكس تمامًا هو ما فعلته هذه السينما، فعدا استثناءات قليلة جدًا بعضها تحف ثمينة تستعصي على النسيان، مثل فيلم "شيء من الخوف" للمخرج حسين كمال، وفيلم "البداية" للعبقري الراحل صلاح أبو سيف.
هذه الاستثناءات على ندرتها بدا أغلبها واهنًا جدًا وضعيف التأثير، إما بسبب استغراقها في الرمزية والإبهام أو استخدام فكرة "طغيان السلطة" على نحو مبتذل وشديد السطحية ومجرد "تيمة" تجارية ليس أكثر، لذلك رأينا كيف أنّ عددًا ليس قليلًا من الأفلام المصرية، تَعمّد صُنّاعها القيام بعكس المطلوب عندما حاولوا تكريس صورة المستبد الحنون الطيّب "أبو الشعب" الذي ليس بريئًا فحسب من كل اعوجاج أو انحراف بما في ذلك الفساد المتفشي في نظامه، وإنما هو دائمًا وأبدًا مَعقد الأمل وملاذ البسطاء والمظلومين.. تأمّل، أرجوك، في فجاجة وسخافة أفلام من نوع "طباخ الرئيس" و"جواز بقرار جمهوري".. إلخ.
وللحق، فإنّ السؤال نفسه عن دور السينما في الدفاع عن القيم العظمى للديمقراطية، سأله كثيرون عما فعلته سينما هوليود الأمريكية في المعركة التي خاضها المبدعون والمثقفون الغربيون عمومًا ضد النازية والفاشية خلال سنوات صعودهما في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي؟.
لقد كانت الإجابة سلبية أيضًا، ذلك أنّ هوليود لاذت بخرس وصمت ملحوظين تجاه الظاهرة النازية حتى اضطرت واشنطن إلى المشاركة الفعلية في الحرب ضد ألمانيا وباقي دول المحور الفاشي-النازي، بعد عامين كاملين من اندلاعها، عقب الهجوم الساحق الذي نفذته قوات البحرية اليابانية على ميناء وقاعدة "بيرل هاربر" الأمريكية الضخمة.
الصمت والخرس الهوليوديان هذان لم يقطعهما آنذاك سوى فيلم يتيم لكنه كان قويًا وواضحًا في رسالته فضلًا عن كونه تحفة فنية حقيقية أنجزها في العام 1938 أعظم مبدع في تاريخ الفن السابع، "شارلي شابلن" الذي اختار لهذا الفيلم اسم "الديكتاتور" وجسّد فيه شخصية هتلر تحت اسم مستعار هو "هنكل" وكذلك شخصية حلاق غلبان ملامحه تشبه ملامح الزعيم النازي.
إذن تحدى شابلن بهذا الفيلم ذاك الصمت الأمريكي الذي لم يخلُ من شبهة تواطؤ وربما تعاطف مع رجعية وعنصرية المشروع النازي.
دفع شابلن ثمنًا فادحًا للتحديات المتخم بها سجله الإبداعي
لقد مَرَ فيلم "الديكتاتور" بصعوبة بالغة من بين المتاريس والقيود التي وضعتها آنذاك ما تُسمى "لجنة الكونجرس لمتابعة النشاطات المعادية لأمريكا" لمنع أية أعمال فنية تهاجم أو تسخر من هتلر، وقد دفع شابلن بعد سنوات قليلة ثمنًا فادحًا لهذا التحدي وغيره من التحديات المتخم بها سجله الإبداعي الرائع، عندما وضعته لجنة النائب ذائع الصيت وسيء السمعة جوزيف مكارثي (1908 -1957) في مطلع خمسينيات القرن الماضي، مع المخرج الكبير إليا كاذان، على رأس قوائم "المشبوهين" المتهمين بموالاة الشيوعية والاشتراكية، ما اضطره إلى الهرب ومغادرة أمريكا نهائيًا.
ويكفي من فيلم "الديكتاتور" مشهده الخالد الطويل الذي يظهر فيه الحلاق المسكين شبيه هتلر وقد هرب للتو من أحد معسكرات الاعتقال لكنّ قدميه تقوداه مصادفة إلى حيث سيخطب الزعيم النازي، وعندما يراه الحراس يظنونه زعيمهم ويجعلونه يصعد إلى المنصة التي سيٌلقي الحلاق من فوقها خطابًا إنسانيًا رائعًا ومناقضًا تمامًا لكل نظريات هتلر وكل ممارساته، فهو قال مثلًا: "ألا تلاحظون كيف أنّ الجشع صار يحيط عالمنا الراهن بسياج جهنمي من الحقد والكراهية ويهبط بنا إلى مستنقع البؤس والدم؟.. لكن إياكم أن تيأسوا فالديكتاتوريون يفنون في النهاية، كما أنّ السلطة التي اغتصبوها عائدة لا محالة إلى الشعوب.. وطالما أنّ الناس يعرفون كيف يموتون ويضحون بأرواحهم فإنّ الحرية لن تفنى أبدا".
(خاص "عروبة 22")