تمر جهود الوساطة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في هذه الآونة بمرحلة قد تكون حاسمة بالنسبة لمصيرها، فإما نجاحا لا تتوافر مؤشراته حتى الآن، أو فشلا يعني استمرار الصراع لأمد غير معلوم إلى أن يحين أوان انتصار الحق.
وتنظر هذه المقالة إلى جهود الوساطة الحالية من خلال ملاحظتين تتعلق الأولى منهما بالطبيعة الخاصة لهذه الجهود، فمن المعروف أن الوسيط يجب أن يتمتع بقبول طرفي الصراع الذي تجرى الوساطة بشأنه وثقتهما، وهو شرط لا يتوافر فى أي من الدول الثلاث المتصدية للوساطة، فالولايات المتحدة معروفة بانحيازها الصارخ لإسرائيل، أما مصر فموقفها من الحقوق الفلسطينية معروف، وهو موقف لم تغيره معاهدة السلام مع إسرائيل، وإن غيرت أساليب دفاعها عن هذه الحقوق، والأهم أن ثمة تماهيا بين موقف مصر والمقاومة في قضايا عديدة لعل أهمها ما يتعلق بمعبر رفح ومحور فيلادلفيا، وبالنسبة لقطر فهي تستضيف قيادة حماس، ودأبت على تقديم المساعدات المالية لها، ولذلك فإن فكرة قبول الوسيط من طرفى الصراع نابعة من هذا الطابع المركب للقائمين بالوساطة، بمعنى أنهم يتضمنون عنصرًا محسوبًا على إسرائيل، وآخر مناصرًا للحقوق الفلسطينية، ومن هنا التوازن الذي سمح لطرفى الصراع بقبول توسط أطراف لا يحظى كل منها بالضرورة بقبول طرفي الصراع وثقتهما معًا.
وتتعلق الملاحظة الثانية بدوافع الأطراف القائمة بالوساطة، وإذا كانت دوافع الطرفين المصري والقطري واضحة فإن الدوافع الأمريكية تحتاج وقفة، إذ يُظهر نموذج المواقف الأمريكية تجاه المواجهات العربية-الإسرائيلية أنها تبدأ بالانحياز الكامل لإسرائيل، ثم تتحول بالتدريج إلى محاولة القيام بالوساطة لإنقاذ إسرائيل، ويُستثنى من ذلك تواطؤ إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر 1956 الذى أخطأت فيه قراءة بنية القيادة الدولية الجديدة بعد الحرب الثانية، وقامت بعمل من خلف ظهر الإدارة الأمريكية فأجبرها الرئيس أيزنهاور على الانسحاب من سيناء وغزة، وبعد ذلك تبلور النموذج الراهن للسلوك الأمريكي، ففي عدوان 1967 لا يخفى الدعم الأمريكى السافر لإسرائيل بل التواطؤ معها، ثم الهرولة إلى تقديم مبادرة روجرز فى 1970 مع احتدام حرب الاستنزاف المصرية، وتكرر نموذج هذا الموقف مع خلاف في التفاصيل في حرب أكتوبر 1973 التي أنقذت الولايات المتحدة فيها إسرائيل من الهزيمة بإمداداتها العسكرية والاستخباراتية الهائلة، ثم سارع كيسنجر للتوسط في مفاوضات فض الاشتباك بعد الحرب بعد أن أعادت القوات المسلحة المصرية التوازن لمعادلة الصراع مع إسرائيل، وهاهو النموذج يتكرر بحذافيره في المواجهة الحالية من البدء بتبني وجهة النظر الإسرائيلية كاملة، إلى تصدر الإدارة الأمريكية جهود الوساطة الحالية بعد أن أثبتت المقاومة صلابتها.
ومن هنا فإن الإدارة الأمريكية عندما تتصدى لجهود الوساطة لابد وأن تنطلق من موقف الانحياز لإسرائيل، وفي البداية كان الدعم المطلق كما سبقت الإشارة، فلما صمدت المقاومة وانعكست تداعيات صمودها على الداخل الإسرائيلي والساحة الدولية بل والأمريكية في توقيت حساس هو عام الانتخابات الرئاسية، بدأت الإدارة الأمريكية تتحسس طريقها للمشاركة المتحيزة في جهود الوساطة بتحميل المقاومة مسئولية تعثر هذه الجهود.
فلما لم يعد هناك مجال لشك في مسئولية نيتانياهو عن هذا التعثر من خلال تصريحاته التي أوضحت هدفه الحقيقى من المفاوضات، واعترفت عناصر إسرائيلية وازنة سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا بمسئوليته عن عرقلة الصفقة لمصلحته الذاتية صمتت الإدارة الأمريكية تمامًا، ثم بدأت تتبع نهجًا يُحار المرء في التأكد من دوافعه الحقيقية، ومفاده الإصرار على أن الصفقة باتت مؤكدة وقريبة، مع أن قيادات إسرائيلية كثيرة - من بينها وزير دفاع نيتانياهو نفسه - كانت تؤكد أن عرقلته لهذ الصفقة مستمرة بما يضيفه مع كل تطور للمفاوضات من مطالب جديدة تعرقلها لسبب بسيط، وهو أن الاستجابة لهذه المطالب تعنى الاعتراف له بنصر لم يتحقق في ساحة القتال، بل إن دائرة المقاومة اتسعت لتشمل الضفة الغربية وتتصاعد فيها، بل امتدت للداخل الإسرائيلي، واستمرت لغة التفاؤل الأمريكية حتى بداية الجولة الحالية من المفاوضات التي صورت التصريحات الأمريكية قبلها أن مسألة التوصل لصفقة باتت محسومة، على عكس تصريحات لمسئولين إسرائيليين بارزين سابقين وحاليين، وبطبيعة الحال على العكس أيضًا من تقديرات المقاومة، فلما انتهت جولة الدوحة الأخيرة إلى لا شيء أعلنت الإدارة الأمريكية أنها تقدمت بمقترح لجسر الفجوة بين الطرفين.
ولو صحت التسريبات عن فحوى هذا المقترح، فإن وجهة نظر المقاومة صحيحة، وهي أنه يتجاوز ما سبق الاتفاق عليه وقبلته المقاومة، وينحاز لوجهة النظر الإسرائيلية، وفي زيارة وزير الخارجية الأمريكي لإسرائيل الإثنين الماضى أعلن أن نيتانياهو وافق على المقترح الأمريكي الجديد، وهو ما سمح لبلينكن بالعودة للغة تحميل المقاومة مسئولية تعثر المفاوضات، ويُلاحظ كالعادة أن الإدارة الأمريكية هي التي تتحدث بلسان نيتانياهو، ابتداءً من إعلان بايدن مقترحه الذي نسبه لنيتانياهو فى 31 مايو الماضى، ومرورًا بالإفادة الأمريكية بأن إسرائيل وافقت على قرار مجلس الأمن الذى جسد مقترح بايدن/نيتانياهو!
علمًا بأن التصريحات الصادرة عن الوفد الإسرائيلى في الأمم المتحدة كانت تتحدث عن قبول الخطوط العريضة للقرار بحجة أنها تخشى من تفسير حماس لها، والآن يعلن بلينكن بالنيابة عن نيتانياهو أنه وافق على المقترح الأمريكي الأخير، علمًا بأننى تابعت تصريحاته بعد اجتماعه ببلينكن، ولاحظت أنه إما لم يعلن بلسانه صراحة الموافقة على المقترح، أو أرفق الموافقة كالعادة بشروط أو عبارات غامضة، كالقول بأن الإدارة الأمريكية تعلم المطالب الإسرائيلية، أو إضافة عبارات مثل بما لا يتعارض مع أمن إسرائيل، والواقع أن المطالب الأخيرة المعلنة لنيتانياهو تنسف احتمالات التوصل لاتفاق طالما بقي أداء المقاومة ومواقفها على ما هو عليه، فماذا عن المستقبل؟ تحتاج الإجابة نقاشًا مستفيضا.
(الأهرام المصرية)