رغم الملاحظات الكثيرة على التجربة الديمقراطية التي عرفها اليمن طوال ثلاثين عامًا منذ قيام دولة الوحدة في العام 1990م، إلا أنّها تميّزت بوجود أحزاب مختلفة التوجهات وصحف معارضة وأخرى مستقلّة، ومع الإطاحة بالحزب الاشتراكي من الحكم واستفراد علي عبد الله صالح بالحكم، تبدّلت التحالفات حيث أصبحت أحزاب اليسار (الاشتراكي والناصري) حلفاء لحزب الإصلاح الإسلامي، واستمرّ هذا التحالف حتى الإطاحة بنظام حكم صالح في العام 2012.
وإذا كانت المرحلة الانتقالية، التي تقاسم فيها حزب الرئيس صالح مع حزب الإصلاح عمليًا السلطة، شهدت صراعًا حادًا بين هذين الحزبين اللذين عملا لعقود على مواجهة أحزاب اليسار، فإنّ كثيرًا من المراقبين، بمن فيهم مبعوث الأمم المتحدة الأسبق إلى اليمن جمال بنعمر، يحمّلون هذا الصراع المسؤولية في تسهيل مهمة الحوثيين بالسيطرة على صنعاء، وهي الخطوة التي كانت سببًا في إشعال الحرب بعد نحو 6 أشهر على ذلك. وإذ مثّلت الحرب بدايةً لمرحلة جديدة، فإنها ومثل الصراعات الداخلية في العالم أدّت إلى تعاظم دور التشكيلات المسلحة وتراجع دور الأحزاب حتى وصل أدنى مستوياته.
قيادات الأحزاب في صنعاء تعمل تحت السقف الذي يسمح به الحوثيون
ولأنها أوجدت سلطتين في البلاد، إحداهما يعترف بها العالم وتتخذ من مدينة عدن عاصمةً مؤقتةً للبلاد ومقرًا لها، والثانية في صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين، فقد انعكس ذلك على الأحزاب الرئيسية باستثناء حزب الاصلاح الذي انتقلت كل قيادته إلى الخارج ويمتلك على الأرض مناطق نفوذ واسعة ينشط وعناصره فيها بحرّية، وأصبح هناك قيادة لحزب الموتمر الشعبي وأخرى للحزب الاشتراكي وأخرى للناصري في صنعاء، وتعمل هذه القيادات تحت السقف الذي يسمح به الحوثيون، ولديها قيادات أخرى منضوية في صفوف الحكومة المعترف بها.
ومع أنّ الحوثيين يرفضون حتى الآن اعتبار أنفسهم حزبًا سياسيًا، فإنهم يمتلكون مجلسًا سياسيًا معيًنًا يتواصل مع قيادة الاحزاب المتواجدة في مناطق سيطرتهم ويفرضون على تلك القيادات اتخاذ مواقف لا تتعارض مع مواقفهم، وجمّدوا أيضًا أرصدة الأحزاب ولا يسمحون بالانفاق من تلك الأرصدة إلا بموجب موافقة مسبقة من قبلهم.
الصراع على وراثة علي صالح بين نجله وابن عمّه أوجد حزبًا جديدًا
وتتجلى محنة الأحزاب في اليمن بالحالة التي يعيشها حزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه الرئيس الأسبق علي صالح الذي أصبح 3 أجنحة، وانشق عنه حزب جديد، الجناح الأول لديه قيادة في صنعاء بزعامة صادق أبو راس، وتلك القيادة ملزمة بالتحالف مع الحوثيين رغم مقتل رئيسهم الأسبق على أيديهم، وتخضع هذه القيادة وفق مصادر متعدّدة في الحزب لرقابة مشدّدة على كل أنشطتها وتحركاتها وتصريحاتها، كما توجد قيادة أخرى في الخارج هي أقرب ما يكون من نجل الرئيس الأسبق، السفير أحمد علي عبد الله صالح، وهناك جناح ثالث يتزعمه رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي.
ولا تقتصر محنة حزب المؤتمر على ذلك، بل إن الصراع على وراثة الرئيس الأسبق، بين نجله الأكبر احمد وابن عمه العميد طارق صالح الذي يقود تشكيلًا عسكريًا يسيطر على المنطقة الممتدة من مضيق باب المندب حتى جنوب محافظة الحديدة على ساحل البحر الأحمر ويعرف باسم المقاومة الوطنية، أوجد حزبًا جديدًا جلّ قادته ومنتسبيه من أعضاء المؤتمر الشعبي، وتمكّن المكتب السياسي لتلك القوات من استقطاب أكثر من عشرين من أعضاء البرلمان عن حزب المؤتمر وكثير من القيادات العليا، ويحظى بدعم وتأييد من رئيس البرلمان سلطان البركاني الذي لم ينضمّ حتى الآن إلى التشكيل الجديد.
ومع التراجع الواضح في دور الحزب الاشتراكي الذي كان يحكم دولة جنوب اليمن قبل توحيد شطري البلاد، برز المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يطالب بالانفصال كقوة رئيسية ورثت الحراك الجنوبي الذي ناهض حكم صالح لفترة طويلة ورفض نتائج حرب 94 م، وزاد من قوة "الانتقالي الجنوبي" في المعادلة السياسية والعسكرية امتلاكه قوة عسكرية تضم عشرات الآلاف من المقاتلين وسيطرته على عدد من محافظات الجنوب، وبالمثل تراجع أيضًا دور التنظيم الناصري الحليف المقرّب للاشتراكي، وبعد 8 سنوات من الحرب ودخول البلاد مرحلة التهدئة، جاء تشكيل مجلس القيادة الرئاسي انعكاسًا للوجود العسكري لمختلف الأطراف العاملة في إطار الشرعية، حيث يمتلك المجلس الانتقالي الجنوبي 3 من أعضاء المجلس، كما يمتلك المؤتمر الشعبي ممثلين، فيما يمتلك حزب الإصلاح ممثلين أيضًا، والمقاومة الوطنية ممثلاً واحدًا.
قادة الأطراف المتحاربة يجمعها موقف واحد: رفض التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة
ووفق ما يقول أمين عام مساعد سابق لأحد الأحزاب، فإنّ من مفارقات مشهد التعددية السياسية في اليمن أنّ كلّ الأحزاب استطاعت الاستمرار بعد إقرار دستور دولة الوحدة للتعددية الحزبية، مع أنها وجدت في ظلّ تحريم وتجريم العمل الحزبي، ومع ذلك فقد نجحت في الاستمرار، ولعبت دورًا متواضعًا في العملية السياسية وفي المشاركة في إدارة الصراعات بكل صورها ومستوياتها منذ الوحدة وحتى اندلاع الحرب المركّبة عام 2015.
ويرى الرجل (الذي طلب عدم ذكر اسمه لأنّ عمله الحالي يحظر عليه الحديث في هذه القضايا) أنّ قادة الأطراف المتحاربة يجمعها موقف واحد وهو الرفض المطلق للتعددية السياسية ولكلّ وظائفها السياسية المتمثّلة في الانتخابات والتداول السلمي للسلطة، وقيمها الثقافية المتمثلة في حماية وتعزيز قيم الحريات العامة والخاصة. ويقول إنّ الأحزاب انخرطت في الحرب وهي في حالة استنزاف ووهن سياسي وثقافي، بسبب ما تعرّضت له من محاولات الخصي السياسي الممنهج إبان حكم الرئيس صالح.
ويحمّل القيادي الحزبي السابق ما وصفها بالمحفزات المكثفة لقيم القتال الخالي من الرؤى السياسية والثقافية، مسؤولية تمكين رجال البندقية وقيمهم وزحزحة رجال السياسة وقيمهم إلى هوامش هذة الأحزاب. ويقول إنه ومع بلوغ مرحلة البندقية حالة الغروب، ومع تطبّع وتكيّف قوى السياسة والثقافة مع واقع الهامش فقدت الأحزاب ما كان لها من قدرة ودور قبل الحرب، وها هي البلاد على مشارف مرحلة إحياء السياسة، ولكن بخيول وفرسان منهكة وبقيم سياسية وثقافية آسنة.
(خاص "عروبة 22")