فمن الوضعية المنطقية، مثلًا، لدى مفكر من طراز زكي نجيب محمود جرى الانتقال إلى النزعة التوفيقية، ومن نقد العقل العربي لدى مفكر من قامة محمد عابد الجابري جرى الانتقال إلى تفسير القرآن، ومن تبجيل الغرب لدى مفكر وسياسي من طراز محمد حسين هيكل إلى اكتشاف الشرق، ومن اليسار الماركسي لدى محمد عمارة وعادل حسين إلى اليسار الإسلامي.. إلخ.
غير أنّ عمق تلك المراجعات اختلف كثيرًا بين هؤلاء، فبعضهم جاء تحوّله هادئًا ومنطقيًا، وبعضهم الآخر كان تحوّله انقلابيًا، وهو نفسره باختلاف دوافعهم ومراوحتها بين أربعة أساسية:
الدافـع الأول معرفي، يتعلق إجمالًا بتراكم الخبرات الفكرية لدى المبدع مع كرّ سنوات العمر، بما يواكب ذلك من نضوج تدريجي بطيء وعميق في مواقفه من القضايا الكبرى كالنهضة والحداثة والهوية، يميل به نحو الاعتدال. هنا تكون المراجعة عميقة ومسؤولة، تجري على مهل، والأغلب أن تكون على مراحل، أولها غير ملحوظ أو مُعبَّر عنه صراحة، حيث تدور المراجعات في ذهن المفكر نفسه، وإن أمكن لناقديه ومتابعيه أن يرصدوها، أما الثانية فتخرج إلى العلن وتثير الجدل بينه ومحيطه الثقافي. والحق أنّ المراجعة على هذا المستوى تُعد طبيعية، حيث يميل المفكر إلى المواقف الأكثر تركيبًا واعتدالًا، مبتعدًا عن الرؤى الراديكالية، التي غالبًا ما تجذبه شابًا. بل إنها إيجابية ومطلوبة، فليس متصورًا أن يولد المفكر مكتملًا، وأن يبقى قائمًا على أفكاره الأولية، عصيًا على التطور، ومن ثم فهي دليل على حيوية الفكر الإنساني.
الوعي الشمولي ذو بنية متشابهة جوهريًا وإن اختلف ظاهريًا بين الأيديولوجي والديني
الدافع الثاني وجـودي، حيث يسعى المفكر إلى التوافق مع المكونات الأساسية لهويته كلما طال به العمر وأشرف على الرحيل، بتأثير الخوف من الفناء، والذي يرتبط في الرؤية التوحيدية للوجود بحدث قيامي يتمحور حوله مفهوم الخلاص الروحي. ففي العمر المتأخر، يبدو الناس أكثر حرصًا على الإعداد لما بعد الحياة أكثر من التأسيس للحياة نفسها، وإن كان المفكر لا يصرّح بذلك، بل يمارسه عمليًا من خلال آليات ذهنية دفاعية، يقوم معها بإعادة قراءة الماضي (التراث)، على ضوء هواجس المستقبل (العدم)، مع ما يقتضيه ذلك من القيام بتأويلات جديدة لمواقفه الفكرية، تجعله أكثر توافقًا مع منطق دينه ومقتضى إيمانه.
الدافـع الثالث استراتيجي، يتعلّق بموجات التحوّل العالمي، فمثلًا، عندما انهار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن العشرين كان ذلك إيذانًا بمراجعات كبرى، ونكوص مثقفين كثر إلى مواقف رجعية قياسًا إلى مواقفهم الاشتراكية/التقدمية، حيث تحرك البعض من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن القومية العربية إلى الإسلام السياسي، الذي وجد فيه اليساريون طوق نجاة يمدهم بـعقيدة فكرية شاملة كالتي اعتادوا عليها، فالوعي الشمولي ذو بنية متشابهة جوهريًا، وإن اختلف ظاهريًا بين الأيديولوجي والديني. حتى أنّ المثقفين اليساريين القلائل الذين تحركوا نحو الفكر الليبرالي، وقع أغلبهم، في ظل غمرة الحماس، أسيرًا للمبالغة إلى درجة الدفاع عن الاحتلال الأمريكي للعراق وتسويغ "ديمقراطية الدبابات".
تعدد دوافع المراجعات الفكرية واختلاف سياقاتها إلى الدرجة التي تفرض علينا أن لا نضع أربابها جميعًا في سلّة واحدة
أما الدافع الرابع فيراوح بين الانتهازية واليأس، إذ ثمّة من تحوّل جذريًا عن مواقفه القديمة، وهاجم النظام السياسي الذي ترعرع في ظلّه واستمتع برعايته، بذريعة أنه استعاد وعيه المفقود، ولم يكن ذلك جوهريًا سوى طلب لاستمارة التحاق بالحاكم الجديد قدّمه رجل كتوفيق الحكيم إلى سياسي من طراز أنور السادات في صورة كتاب "عودة الوعي" إبان موجة الهجوم العارم على عبد الناصر ومشروعه. وثمة من تحوّل عن مواقفه تحت ضغط اليأس، بعد هزيمة الأحلام الكبرى التي وهب حياته لها أو إخفاق التجربة السياسية التي تحمّس لها، تكيّفًا مع الواقع. ولعل هذا هو حال المفكر الذي تُشكّل الإيديولوجية المكوّن الأساسي في تكوينه قياسًا إلى المكوّن المعرفي، فالمثقف الحقيقي، ذو العقل النقدي، الطامح إلى مقاربة الحقيقة، لا يقع بسهولة في أسر الانتهازية واليأس.
هكذا يتبدى مدى تعقيد تلك الظاهرة، المراجعات الفكرية، لتعدد دوافعها واختلاف سياقاتها، إلى الدرجة التي تفرض علينا أن لا نضع أربابها جميعًا في سلّة واحدة، بغية هجائهم، أو حتى تقريظهم، بل لا بد من إعادة فحص ونقد تحوّلاتهم، كشفًا عن مضموناتها المعرفية وسياقاتها التاريخية، على النحو الذي يعطينا فهمًا أفضل لحركة تاريخنا الفكري، وجدلية تطورنا الثقافي، خصوصًا بين القرن العشرين، وخلفه الحادي والعشرين.