وجهات نظر

الغرب والعودة للحرب

في القرن الثامن عشر سيطرت في أوروبا سردية "السلم الأزلي" التي كتب حولها فلاسفة كبار من نوع روسو وكانط ولايبنتز ولابيه سان بيار. اعتقد كل هؤلاء أنّ أفكار حقوق الإنسان والحرية والعقلانية ستحمي الغرب من شبح الحرب وستعمم على الصعيد الكوني قيم التسامح والإخاء الإنساني.

الغرب والعودة للحرب

كانت أوروبا خارجة أوانها من حروب دينية وطائفية طويلة، وقد اكتشفت أنّ مفاتيح السلم هي: استيعاب الدولة الحديثة لقيم الدين المقدّسة من سيادة وتمثيل وخوف وخشوع، ومن ثم إقصاء المعتقدات الدينية من الشأن العام وتكريس الولاء المطلق للدولة والاعتراف بسيادتها الكاملة وعدم تدخل أي دولة في شؤون الدولة الأخرى.

ومع أنّ النصف الأول من القرن العشرين عرف حربين عالميّتين مدمّرتين، إلا أنّ المسؤولية تم تحميلها للأيديولوجيات الشوفينية المتعصبة التي تم تجاوزها والقضاء عليها، ومن ثم عاد العالم للسلم والسكينة.

بعد الحربين، تم بناء نظام دولي فعال وحاسم على أساس المدونة القانونية العالمية، الغرض منه هو الخروج كليًا من أفق الحرب وضمان الانسجام الشامل بين بلدان العالم. وقد تعزز هذا الشعور بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتبني دول شرق أوروبا للديمقراطية التعددية وحقوق الإنسان.

دول الغرب انساقت لمسلك المواجهة بما سيعيد أوروبا إلى أحلك أيام الحروب والعنف التي توهمت أنها خرجت منها

من هنا ندرك أنّ الحرب الأوكرانية الراهنة التي تفجرت في قلب أوروبا كانت تحديًا خطيرًا بالنسبة للعقل السياسي والقانوني الغربي الذي توهم أنه ألغى نهائيًا كل إمكانات العنف المسلّح على الأقل داخل نادي الأمم المتقدّمة الحرّة.

في هذا السياق، كتب المفكر السياسي الألماني ستيفان لفت في مجلة "سيسرو" (16 يوليو 2024) أنّ استراتيجية الدفاع الغربي الحالية في الجبهة الأوكرانية الروسية تتمحور حول عبارتَيّ "التسلّح" و"المواجهة" بما ينذر بتحوّلات خطيرة على الصعيد الاستراتيجي.

في قمة الحلف الاطلسي الأخيرة التي عقدت يوم ١٠ يوليو في واشنطن، تقرر الانتقال من منطق الردع والدفاع عن أمن أوروبا إلى مرحلة المواجهة الحاسمة من خلال منظومات تسلّح أكثر تقدّمًا من صواريخ شديدة التطور وذخيرة محدودة التداول، وعبر كل فضاءات المواجهة البحرية والأرضية والجوية والسبرنتيقية. المقصود هنا الوصول إلى روسيا ومحاصرة مخزونها النووي والعسكري وتهديد كل عناصر القوة والتفوق التي تتمتع بها.

بهذا الخصوص يرى لوفت أنّ دول الغرب تخلت كليًا عن خيار التفاوض والعمل السياسي، وانساقت لمسلك الحرب والمواجهة، بما سيعيد أوروبا إلى أحلك أيام الحروب والعنف التي توهمت أنها خرجت منها نهائيًا.

كان الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت قد تساءل في منتصف القرن الماضي: هل يمكن تصنيف الحروب العالمية التي هي ظاهرة حديثة في منطق الحرب التقليدية، مع العلم أنها تختلف عن هذا النموذج التاريخي بكونها لا تستخدم العنف لأهداف سياسية مؤقتة ومحدودة بل تقوم على منطق المواجهة الحاسمة والتدمير المطلق، بما يجعلها بدون أفق سياسي حقيقي؟.

خطوات المحور الغربي الأخيرة تعني توجهًا هجوميًا جديدًا لا يمكن معرفة آثاره ونتائجه في المدى البعيد

بطبيعة الأمر، أدت الحقبة النووية إلى نوع جديد من الحرب سُمي وقتها بالحرب الباردة، أساسه هو منطق الردع الذي يعني الحيلولة الاستباقية دون المواجهة المسلحة المباشرة التي قد تقضي كليًا على جميع الأطراف المتصارعة. إلا أنّ الحرب التي سُميت باردة كانت في الواقع غطاءً لحروب كثيرة منتشرة على نطاق واسع في العالم برعاية القوى الكبرى التي فرض عليها توازن الرعب تجنب الصدام المسلح المباشر.

ما تغيّر مع الحرب الأوكرانية الأخيرة، هو الرجوع إلى أجواء الحرب التقليدية في أوروبا، مع فشل منظومة الردع الاستباقي في الحيلولة دون اندلاع الصراع العنيف. لقد كانت خطة المحور الغربي في البداية هي تدعيم قدرات أوكرانيا الدفاعية، إلا أنّ الخطوات الأخيرة تعني توجهًا هجوميًا جديدًا لا يمكن معرفة آثاره ونتائجه في المدى البعيد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن