إنّ الهوية التي حاول "رشيق" مساءلتها ليست الهوية الفردية ولا الهويات الاجتماعية المرتبطة بالجنس والمهنة والطبقة..، وإنما هويات تستدعي تقاليد جماعية وثقافية ودينية ولغوية، من أجل رصد التشابهات والاختلافات، التي تتحكم في كل مطالبة أو ادعاء بتقمص هوية محددة، أو حتى رفع السلاح من أجلها، خاصة حينما يتعاظم شعور جماعة ما بالأزمات، أو وقوعها تحت تهديد ثقافي، أو عقدي أو سياسي أو أخلاقي، أو اقتصادي أو بيئي أو عسكري، أو كل أو بعض من هذه الأزمات مجتمعة، وهو ما ينطبق على العالم العربي في الوضعية الراهنة.
أن يصير الإنسان عربيًا هو أن يكون لديه نزوع نحو وحدة ثقافية قائمة على وحدة اقتصادية ونوع من الوحدة السياسية
ورغم أنّ الإجابات التي قدّمت لهذا السؤال من التعدد والتباين بما يتعذر جمعه (الجنسية والأصل والعرق، اللغة والثقافة، الهوية الحضارية..)، إلا أنّ الأوضاع العالمية والإقليمية أصبحت تفرض أجوبة أكثر دينامية وتناسبًا مع حجم التهديد الذي يتعرض له كل فرد يَنظُر إلى ذاته أو يُنظر إليه من الخارج على أنه عربي، سواء رغب في ذلك أم عارضه، "فليست الهوية معطى جاهزًا، بل تُبنى وتتحوّل في مجرى الوجود الإنساني" (أمين معلوف)، ضمن هذا التوجه وعند محاولة الإجابة عن السؤال ما العربي؟ ربما وجب الأخذ بما ذهب إليه المفكر والفيلسوف المغربي والعربي من أصول أمازيغية "عابد الجابري"، والذي لم يعترف يومًا بالمسألة الأمازيغية وظل مدافعًا عن الهوية العربية، فأن يكون الإنسان عربيًا في نظره يعني أن يكون عروبيًا، وباختصار فإنّ العربي، في رأي الجابري، "هو من يريد أن يكون عربيًا". بيد أن كل هذا يظل "عرضة للتشويش من خلال مواقف جوهرانية للهوية يقوم فيها التاريخ بالإجابة بدل الناس" (رشيق).
وعليه فإنّ طرح السؤال: ما العربي؟ في سياق عالم يستعد لقلب الصفحة، هو سؤال وجود وكينونة، وجب على كل مثقف وباحث عربي أن يوجد له حيزًا ضمن عدته البحثية والمنهجية، من منطلق تخصصه العلمي: لغوي، اجتماعي، ثقافي، سياسي، لساني، تاريخي، علمي، وتكنولوجي...، ورغم أنّ السؤال نفسه قد يبدو عند البعض مُشوِشًا وغير مقبول، باعتبارهم ليسوا عربًا وإن كانوا يتحدثون العربية، إلا أنّ الأوضاع الراهنة، تفترض إجابة مغايرة تتعالى عن أي تصور جوهراني للهوية، ولذلك "فأن يصير الإنسان عربيًا اليوم، وليس فقط مغربيًا أو مصريًا أو عراقيًا، هو أن يكون عروبيًا، أي أن يكون لديه نزوع نحو تعزيز الوحدة الثقافية العربية القائمة على وحدة اقتصادية، ونوع ما من الوحدة السياسية، هو أن يشعر بأنه عربي فعلًا عندما يتعرض شعب أو فرد عربي لعدوان أجنبي" (الجابري)، أو يفرح ويفتخر لانتصارات وملاحم شعب عربي أو جماعة عربية، ورغم أنه تصور أيديولوجي قد يبدو للبعض مُبالغًا فيه، إلا أنّ التحولات الجيوسياسية العالمية متعاظمة النفوذ والتأثير، النازعة نحو القطبية والتحالفات العسكرية، والتكتلات المالية والاقتصادية، وزيادة الاحتكاك والتوتر بين الثقافات، تجبرنا على أن نكون كذلك.
استعداد العالم لدخول حقبة جديدة لا مكان فيها للجماعات الصغرى والضعفاء والانعزاليين
حجتنا في هذا الطرح جملة التحولات الرقمية والشبكية التي تقودها تكنولوجيا المعلومات في العالم، خاصة مع زيادة مخاطر استخدامات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة Big Data، واتساع الأسواق المالية والسياسية عالية التردد، وكذا التحولات العسكرية والسياسية تجاه القضايا العربية الكبرى، وزيادة التوترات بين الأقطاب العالمية الكبرى، إضافة إلى زيادة المخاطر البيئية والتحولات المناخية وشح الموارد المائية، واحتدام المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية بين القوى العظمى، وزيادة فرص الاسترزاق والكسب من الانقسامات السياسية والاجتماعية الحاصلة في العالم العربي، باعتبار كل ذلك من مؤشرات استعداد العالم لدخول حقبة جديدة، لا مكان فيها للجماعات الصغرى، والضعفاء، والانعزاليين.
من كل ذلك يبقى الجواب عن السؤال ما العربي؟ ليس نظامًا تعريفيًا أو بطاقة هوياتية وحسب، وإنما تحدٍ واستفزاز يدفع إلى البحث عما يجب فعله للحضور في عالم يستعد لقلب الصفحة.
(خاص "عروبة 22")