قضايا العرب

من يحرّك أزمة الخبز في تونس؟

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

توجّهت وفاء صباح الاثنين الـ25 من يوليو/ تموز الماضي، كما جرت العادة، إلى أحد محلات البقالة في حيّها بالعاصمة تونس لشراء الخبز لكنها لم تجد. أخبرها أصحاب المحل أنه لن يكون متاحًا لديهم حتى إشعار غير محدّد لأنّ المخابز التي تزوّدهم بالخبز قد أغلقت أبوابها إلى حين توفّر الدقيق... اضطرّت للتوجّه إلى مخبزة الحي البعيدة عن منزلها، فهالها ما رأت!

من يحرّك أزمة الخبز في تونس؟

"بمجرد وصولي هالني الطابور الطويل للمواطنين الذين ينتظرون دورهم للحصول على الخبز"... تروي وفاء لـ"عروبة 22" وتضيف: "وقفتُ قليلًا ثم قرّرت الانصراف فلا وقت لديّ لأنتظر دوري الذي سيتأخّر بلا شك. وابتداءً من اليوم التالي بدأتُ أذهب باكرًا إلى المخبزة حتى أتجنّب الانتظار الطويل الذي قد ينتهي من دون أن أحصل على رغيف واحد".

وفاء ليست الوحيدة التي تعيش هذا الوضع يوميًا في الآونة الأخيرة، إذ يواجه أغلب التونسيين صعوبات كبيرة للحصول على الخبز، المادة الأكثر استهلاكًا في البلاد، حيث بات المواطنون يضطرون للوقوف في طوابير طويلة تستمرّ أحيانًا لساعات للتمكّن من شراء حاجتهم من الخبز الذي تتضاعف أسعاره في بعض المناطق في ظلّ النقص الكبير في إنتاجه.

فساد واحتكار وسوء توزيع ... أم شحّ في محاصيل القمح والعملة الصعبة؟

وتُثار أسئلة كثيرة حول أساب أزمة الخبز التي تفاقمت خلال الأسابيع الأخيرة في تونس، بين من يعيد السبب إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيش على وقعها تونس وتداعيات الحرب الأوكرانية الروسية، وبين من يشدّد على سوء التوزيع والفساد وأثر الجفاف على محاصيل القمح هذا الموسم.

ويذهب الرئيس التونسي قيس سعيد في ربط "أزمة الخبز" بالاحتكار والفساد داخل الإدارة، إذ قال في اجتماع عقده الخميس الـ27 من يوليو/تموز الماضي مع رئيسة الحكومة نجلاء بودن (قبل إقالتها مطلع الشهر الجاري وتعيين أحمد الحشاني خلفًا لها): "يجب اتخاذ إجراءات عاجلة تتعلق بالخبز"، مؤكدًا وجود "تلاعب" ولوبيات تعمل في الخفاء على تأجيج الأوضاع والعبث بقوت المواطن التونسي، لكن من دون تسمية هذه الأطراف.

ويقصد سعيد، الذي دأب على تكرار هذه الاتهامات والمبررات في كل مناسبة، التلاعب في توزيع مادة الدقيق على المخابز، التي تحصل بطريقة غير قانونية على الدقيق المدعم المخصّص حصرًا للمخابز المصنّفة (متخصصة في بيع الخبز المدعم).

وهو ما يؤكده رئيس منظمة إرشاد المستهلك (منظمة مستقلة) لطفي الرياحي قائلًا لـ"عروبة 22": "ينص القانون التونسي على أن يوجّه الدقيق المدعم حصرًا إلى المخابز المصنّفة، لكن ما يحدث أنه يتمّ التلاعب بهذه الكميات ويتم تسريبها إلى المخابز غير المصنّفة عبر المؤسسات الحكومية المسؤولة عن عملية التوزيع". وبهذا تذهب المواد المدعمة إلى غير مستحقيها من مصنعي المواد الفاخرة، وتسجّل المخابز المصنّفة نقصًا كبيرًا في كميات الخبز المدعم كما هو الحال هذه الأيام" على حد تعبيره.

بدورها ترى منظمة "آلارت" Alert المناهضة للاقتصاد الريعي (منظمة غير حكومية) أنّ هناك اختلالًا في توزيع القمح بين المطاحن بسبب هيمنة غرفة المطاحن التابعة لمنظمة الأعراف (تضمّ أصحاب المؤسسات ورجال الأعمال) على ديوان الحبوب (مؤسسة عمومية يختصّ في الاتجار في القمح). وهذا الاختلال ذاته موجود في توزيع مادة الدقيق المدعم على مختلف المخابز المصنّفة إذ تهيمن أقلية من أصحاب المخابز على أهمّ الكميات الموزّعة.

ويوجد في تونس 3337 من المخابز المصنّفة على أنها مدعومة حكوميًا تبيع الرغيف الواحد بـ190 مليمًا (0.033 دولار)، و1443 مخبزًا غير مصنف يتم فيها تحرير أسعار الخبز. وتصل حاجة المخابز المصنّفة إلى 50 ألف طن من الدقيق شهريًا ما يساوي 2000 طن يوميًا.

ويخضع الخبز كمادة استهلاكية إلى قرار صادر عن وزير التجارة بتاريخ 13 نوفمبر 2020 جاء فيه أنّ المخابز المصنّفة تستخدم دون سواها الدقيق المدعم لصناعة الخبز الكبير (المخابز صنف "أ")، والخبز الصغير "الباقات" (المخابز صنف "ج").

وإذا كان للفساد والتلاعب دور كبير في نقص الخبز في البلاد، فإن الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي تعيش على وقعها تونس منذ سنوات تلقي بظلالها الوخيمة على مختلف الأصعدة، بينها النقص الكبير الحاصل في المواد الأساسية الأخرى، وعلى رأسها الخبز.

وتستورد تونس كميات كبيرة من الحبوب وخاصة القمح لسدّ الحاجات الداخلية، وأكثر من نصف هذه الكميات يأتي من روسيا وأوكرانيا، ما فاقم حجم التحديات إذ تسبّبت الحرب القائمة بين البلدين في حدوث اضطرابات في الإمدادات العالمية من الحبوب، وارتفاع الأسعار في السوق العالمية في فترة تشهد فيها تونس نقصًا كبيرًا في العملة الصعبة.

وهذا ما يذهب إليه الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي بقوله إنّ "السبب الرئيسي لهذه الازمة يتعلّق بصعوبات مالية تعاني منها الدولة التونسية جراء تراجع الاحتياطي من العملة الصعبة التي تستعملها لإتمام عمليات الشراء من المزودين بالخارج".

بلغ محصول القمح لهذا العام 250 ألف طن فقط، ليتراجع بنسبة 60% عن السنة الماضية

كما بات الكثير من المزوّدين الدوليين لا يثقون في تونس ويطلبون دفع أسعار السلع وتكاليف النقل مسبقًا بسبب تخفيض تصنيفها الائتماني (من وكالة فيتش) في مارس/آذار الماضي.

ومن المرجّح أن تتضاعف معدلات استيراد الحبوب في ظل تراجع الانتاج المحلي بسبب موجة الجفاف ونقص الأمطار التي ضربت تونس في السنوات الأخيرة. إذ شهد إنتاج الحبوب في تونس لسنة 2023 تراجعًا غير مسبوق، وبلغ محصول القمح لهذا العام 250 ألف طن فقط، ليتراجع بنسبة 60 في المئة عن السنة الماضية. وهذا الوضع عمّق الأزمة المالية التي تواجهها تونس التي ترّجح التقديرات الرسمية أن تتجه لشراء 90 بالمئة من احتياجاتها من القمح بسبب الجفاف.. علمًا أن استهلاك تونس من الحبوب يبلغ 3.4 مليون طن موزعة بين 1.2 مليون طن لكلّ من القمح الصلب والقمح اللين، ومليون طن شعير، وفق بيانات رسمية لديوان الحبوب الحكومي. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن