يُبتعث الشابان إلى الخارج ليعود كل منهما منقلبًا على ما كان فيه، الطهطاوي يعود لينخرط في محاولات جادة وواعية لإخراج المجتمع مما هو فيه، ويعود قطب لينخرط في مشروعات يائسة وغاضبة للخروج على المجتمع بكل ما فيه.
يرجع الطهطاوي الشاب الأزهري من فرنسا حاملًا مشاعل التنوير، ويرجع قطب الدرعمي والأديب المرهف صاحب القلم والبيان البديع من أمريكا شاهرًا معاول التكفير.
أهمية "التخليص" و"المعالم" تكمن في أنّ الأول كان نقطة انطلاق باتجاه التنوير والثاني باتجاه التكفير
في رجعة الطهطاوي كان بصحبته كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، ولم يمكث قطب طويلًا حتى أصدر كتابه "معالم في الطريق"، وحملت الأقدار لكلٍ من الشخصيتين والكتابين ذلك الأثر البالغ فيما جاء بعدهما، الكتاب الأول صدر في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1834)، والكتاب الثاني كُتب مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين (1964).
أهمية الكتابين (التخليص، والمعالم) لا تعني أفضليتهما، على ما تلاهما أو سبقهما من كتب، فأهميتهما تكمن في أنّ كلًا منهما كان بمثابة نقطة انطلاق، الأول باتجاه التنوير، والثاني باتجاه التكفير.
الطهطاوي له إسهامات فكرية أنضج وأفضل مما جاء في "التخليص"، وقطب أيضًا له كتابات سابقة هي أفضل بالطبع مما جاء في "المعالم"، رغم أنّ مشايخ السلفية المشهورين هاجموا كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" وتمنوا لو أنّ قطب تبرأ منه قبل مماته.
"التخليص" واحد من أهم الكتب العربية التي وُضعت في زمانه، مثَّل علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، ونسجت جميع الكتب التي جاءت بعد كتاب الطهطاوي على المنوال نفسه، وبدا كأنها "مجرد حواشٍ للكتاب الأم" بنص عبارة للدكتور محمد عبد الوهاب جلال المفكر الكبير والخبير بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة.
على الجانب الآخر اعتُمد كتاب "المعالم" كأحد المراجع المهمة - وربما الأساسية - التي ساهمت في مد أجيال متعاقبة من "الجهاديين"، بزادها المسموم، وتحوّل إلى أيقونة فكرية لجماعات التطرّف والعنف باسم الدين، وجاءت كتب وأفكار جديدة من بعده كأنها عزف متنوع على ذات الأفكار التي وضع قطب لحنها الأول في "المعالم".
ترددت أصداء "تخليص الإبريز" في المنتج الفكري والثقافي طوال القرن التاسع عشر وما بعده، بينما يتردد صدى "معالم الطريق" في "الفريضة الغائبة" و"ميثاق العمل الإسلامي" و"حكم قتال الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام" و"حتمية المواجهة"، ثم في "إدارة التوحش"، وغيرها من الأفكار والمراجع التي تبنتها جماعات العنف في العالم الإسلامي، وجاءت كلها كأنها "إضافات على المتن" الذي وضعه سيد قطب في كتاب "المعالم".
قبل قرن كامل كان الطهطاوي خطوة كبيرة في مسيرة التقدّم باتجاه الحركة الطبيعية للتاريخ، وتبدت كل جهوده الفكرية والعملية في صورة المتطلع إلى بناء دولة حديثة تستفيد من المنجزات الغربية في العلم والتقدّم الحضاري.
ثم بعد قرن يأتي قطب لينقض على كل ما تحقق طوال مشوار شعب ناضل طويلًا من أجل بناء تلك الدولة الحديثة، والأسوأ أنه ابتنى مشروعه على فكر المفاصلة والمصادمة والغضب، واختزل الحضارات الإنسانية في مقولات مبسطة وعناوين مراوغة مثل الجاهلية والمادية والحاكمية.
الطهطاوي كما سيد قطب انطلق كل منهما في سياق مواجهة وصراع فكري مع الأفكار السائدة، الطهطاوي كان يواجه جمودًا وانغلاقًا فكريًا مدعومًا باسم التديّن، وهو لا يزيد عن كونه فهمًا محدودًا للدين، على الناحية الأخرى بدا قطب وكأنه ارتد إلى قرون ماضية وحصر الدين في إطار محدود يقيّد حركة التجديد والتطوير، بل وينقض عليها.
انقلاب قطب على إرث الطهطاوي جاء انتكاسًا لمسار التقدّم الذي دفعت فيه مصر الكثير من الأثمان الباهظة، وهي تتطلع إلى صناعة المستقبل، وجاءت أفكاره عن جاهلية السلطة والمجتمع معًا، ومخاصمتهما والمفاصلة عنهما بمثابة معاداة لتقدّم المجتمع وتنويره، ومصادرة لإمكانيات تطوّره وتحديثه، والدفع به دفعًا إلى أتون التخلّف.
انطلق الطهطاوي باتجاه السعي إلى تحرير العقل المسلم بينما أعاد سيد قطب العقل المسلم إلى الكهوف
ألقى كتاب الطهطاوي حجرًا في بحيرة راكدة كادت مياهها تتعفن، بينما شكّل كتاب "المعالم" حجر عثرة في طريق يمور بالتغيير ويتطلع إلى التقدّم، معركة الطهطاوي كانت في مواجهة مع التخلّف، وجاءت معركة قطب تواجه حركة التقدّم.
انطلق الطهطاوي باتجاه تطوير واقع المجتمع، والسعي إلى تحرير العقل المسلم من غفلة الجمود الفكري، وانتشاله من وهدة التخلّف الحضاري، بينما انقلب سيد قطب على حركة المجتمع التي ساندها في البداية وانخرط في تأييدها أشد التأييد، ثم لم يكتفِ بمعارضة ما رآه اعوجاجًا في مسيرتها، بل راح يتخذ موقفًا انعزاليًا من الواقع، فأعاد العقل المسلم إلى الكهوف التي كاد يخرج منها ويتعافى من أمراضها المزمنة.
وتلك هي المأساة الكبرى التي تولدت عنها الكثير من المآسي العديدة واحدة تلو أخرى.
(خاص "عروبة 22")