الأداء الروسي يذكّرنا بالتعبير الذي استخدمته صحيفة التايمز البريطانية عام ١٨٨٤ أثناء تغطيتها لمؤتمر برلين بعنوانها "الاندفاع نحو أفريقيا" وهو ما ساهم في تقسيم أفريقيا في هذا التوقيت بين دول أوروبا الكبرى آنذاك، وإذا كانت الموجة الثانية من هذا "الاندفاع" قد انتهت بنهاية الحرب الباردة، فإنّ ما نشهده في السنوات الأخيرة يمكن أن نعتبره الموجة الثالثة لهذا التنافس العالمي، حيث يتواجد في منطقة الساحل الأفريقي ما يقارب من 46 موقعًا عسكريًا للولايات المتحدة في القارة الأفريقية، فضلًا عن إدارة 16 دولة بما فيها الهند، الصين، اليابان، تركيا، وإسرائيل لـ19 قاعدة عسكرية في منطقة القرن الأفريقي.
في هذا السياق، فربما تبدو أهم مخرجات منصة جنيف بشأن السودان التي تمت بهندسة أمريكية وإقليمية هو الكشف عن الخيارات الأخيرة لرئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، إذ إنّ رفض فكرة واشنطن في حسم الصراع بآلية التفاوض من جانب الجيش السوداني تعني تعويله على دعم تسليحي ضخم من روسيا قد يضمن تغيير الموازين العسكرية على الأرض، وذلك طبقًا للتفاعلات السودانية الأخيرة مع موسكو.
السؤال هنا ما هي حدود فاعلية روسيا في تحقيق أهداف البرهان، وما هي المكاسب للطرفين في حال بلورة تحالف ثنائي أو حتى ثلاثي بوجود الطرف الصيني.
تعزيز الوجود الروسي في السودان من خلال 5 وحدات: عسكرية وأمنية وتعدينية وعقارية وزراعية
في البداية؛ أشير إلى أنّ لجوء النظام السياسي السوداني منذ عام ١٩٨٩ إلى المعسكر الشرقي ليس بجديد، إذ إنّ هذا المعسكر قد أنقذ نظام البشير أكثر من مرّة، ذلك بعد تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب في تسعيينيات القرن الماضي ووقوع عقوبات دولية عليها، فلجأت الخرطوم إلى كل من الصين وماليزيا اللذين قدّما دعمًا كبيرًا خصوصًا في مجال الاستثمارات البترولية ووفرت للبشير ونظامه دعمًا غير محدود على الصعيد الاقتصادي.
في التوقيت الراهن يشكل البحر الأحمر لموسكو أهمية كبرى نظرًا لإستراتيجيتها المعلنة منذ ٢٠١٥ بالتوسّع البحري من جهة وتعميق العلاقات الروسية الأفريقية من ناحية أخرى، وطبقًا لذلك فإنّ هدف موسكو الراهن هو إحياء الاتفاق الذي تم بين الخرطوم وموسكو بهذا الشأن عام ٢٠١٧ وهو الاتفاق الذي يتيح إقامة منشأة بحرية روسية في السودان قادرة على استقبال سفن حربية تعمل بالطاقة النووية، وتستوعب ما يصل إلى 300 عسكري ومدني، ويسمح لها باستقبال أربع سفن في وقت واحد، وتستخدم القاعدة في عمليات الإصلاح وإعادة الإمداد والتموين وكاستراحة لعناصر البحرية الروسية.
أما ملامح الاتفاق الجديد بين الطرفين فهي تتعلق بتعزيز الوجود الروسي في السودان من خلال 5 وحدات، منها وحدة عسكرية تُعنى بالعلاقات العسكرية الخاصة بالأسلحة والتدريب، وأخرى أمنية تعمل في حماية المنشآت أو الأفراد، إضافة إلى الوحدة التعدينية وهي تضم عددًا من الشركات العاملة حاليًا في مجال تعدين الذهب أو اليورانيوم أو الكروم والمعادن الأخرى، إلى جانب الوحدة العقارية التي تعمل في مجال البناء وغيره، والوحدة الزراعية العاملة في مجال التنمية الزراعية والحيوانية.
على الصعيد الصيني، هناك زيارة مرتقبة للفريق عبد الفتاح البرهان مطلع سبتمبر/أيلول المقبل إلى الصين، ومن المتوقع أن تسفر عن اتفاقات ذات طبيعة اقتصادية للسودان، إذ إنّ بكين تملك بالفعل وجودًا بحريًا بالبحر الأحمر في قاعدتها بجيبوتي.
في هذا السياق قد تكون الفاعلية كبيرة لكل من روسيا والصين في تحقيق أهداف الجيش السوداني مرحليًا، إذ إنّ تسليح الجيش بالتأكيد من شأنه أن يحسن موقفه العسكري والسياسي، ولكن هل يمكنها بالفعل أن تساهم في إنهاء الحرب السودانية؟.. أم تتحول السودان لميدان تصفية للحسابات بين الغرب، وخصوصًا بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين.
الاندفاع نحو أفريقيا من الجانب الروسي قد يحوّل السودان على المديين المتوسط والبعيد إلى مسرح من مسارح الصراع الدولية
غير خافٍ أنّ زيارة الوزير عباس كامل مدير المخابرات المصرية إلى بورتسودان مؤخرًا كان أحد أغراضها هو الشواغل الأمريكية والمصرية السعودية المشتركة بشأن وجود عسكري روسي على سواحل متاخمة لهما.
وقد تكون الشواغل الإقليمية، خصوصًا المصرية غير مرتبطة بمخاوف من روسيا كالحال على الصعيد الأمريكي السعودي ولكنها مرتبطة بما يعنيه ذلك من تصاعد التوتر في البحر الأحمر في ضوء الوجود العسكري الأمريكي في هذا البحر وتداعيات ذلك على الأمن المصري خصوصًا أمن قناة السويس.
وهكذا فإنّ الاندفاع نحو أفريقيا من الجانب الروسي هذه المرة قد يكون مفيدًا للجيش السوداني على المدى القصير، أما على المديين المتوسط والبعيد فقد يحوّل السودان إلى مسرح من مسارح الصراع الدولية، وهي خسائر للسودان وأفريقيا معًا.
(خاص "عروبة 22")