وجهات نظر

قطار يحمل "فكرة"

ما أكثر الأنباء السيّئة من حولنا في العالم وفي المنطقة، فلا يكاد المرء يتطلع في أي اتجاه إلا ويكتشف أنّ الأطراف جميعها منخرطة في خلاف يتصاعد ولا يهدأ مع مرّ الأيام.. وعندما يأتي نبأ مُفرح في القلب من أجواء كهذه، فإنه يصبح وكأنه فاكهة في غير أوانها، أو كأنه صوت حسن بين الكثير من الأصوات النشاز.

قطار يحمل

وقد جاء هذا النبأ المُفرح من تونس والجزائر معًا، فأذاعت وكالة تونس أفريقيا للأنباء في الحادي عشر من شهر أغسطس/آب، أنّ الخط الحديدي بين البلدين سوف يُعاد إطلاقه في اليوم نفسه بعد أن كان قد توقف لما يقرب من ثلاثة عقود.

كان خط القطار بين تونس والجزائر قد توقف في عام ١٩٩٥ لأسباب أمنية، ثم عاد وتوقف مرة ثانية في ٢٠٠٣ لأسباب فنية، ومن يومها بقي متوقفًا الى أن جرى تشغيله من جديد، وكان الحادي عشر من أغسطس ٢٠٢٤ شاهدًا على هذا الحدث الذي قد يبدو بسيطًا صغيرًا عند الوهلة الأولى، ولكنه بالقطع ليس صغيرًا ولا بسيطًا، إذا ما نظرنا إليه على مستواه المباشر بين الأشقاء في تونس والجزائر، ثم على مستواه غير المباشر في محيط الوطن العربي الأكبر.

التجارب من نوع الاتحاد المغاربي أو أي اتحاد مماثل على اتساع الوطن الأكبر لا تسعد أعداء هذا الوطن

على مستواه المباشر سوف يساعد على نقل المواطنين من الجانبين، وسوف يسعف المستثمرين الذين يرغبون في العمل المفيد للشعبين، وسوف يدعم شبكة النقل البري الواصلة بين القُطرين، وسوف يخدم حركة السياحة التونسية الجزائرية، التي هي أحوج ما تكون إلى ذلك لتوظيف إمكانات كبيرة يملكها التونسيون والجزائريون على الشواطئ وفيما وراء الشواطئ.

ومما قالته الوكالة وهي تنقل الخبر أنّ القطار العائد سوف ينقل في رحلته الواحدة ما يقرب من ٣٠٠ مواطن، وأنّ هذا الرقم مجرد بداية في خط حديدي تعطّل لثلاثين عامًا، وأنّ انطلاقه سوف يكون له ما بعده بين الدولتين على المستوى الإقتصادي بالذات، وأنّ ما بعده سوف يجده كل تونسي وكل جزائري في حياته على المدى الطويل.

ولأنّ النبأ جرى نشره على نطاق ضيّق في وسائل الإعلام، ولأنّ الصحف التي نشرته قد فعلت ذلك في مساحة خجولة لا تكاد تلمحها العين أو تقع عليها، فلقد تمنيت لو أنه قد حظي بانتشار أوسع، لا لشيء، إلا لأنّ انتشاره يمنح الأمل في أن يأتي يوم قريب يتكرر فيه إطلاق خط شبيه بين دولتين عربيتين أخريين، فيبعث ذلك على بعض من التفاؤل الذي ينير أرجاء الطريق.

كنا قد عرفنا ذات يوم كيانًا إقليميًا اسمه الاتحاد المغاربي، وكان الأمل أن يعيش الاتحاد ويكبر وتترسخ فكرته، ولكن أسبابًا كثيرة لم تكتب له طول العمر على غير ما توقع المواطنون في البلاد التي ضمها الاتحاد بدءًا من ليبيا، ومرورًا بتونس والجزائر والمغرب، وانتهاءً بموريتانيا.

كانت تونس والجزائر من بين أعضاء الاتحاد الذي صار كأنه ذكرى، وإذا كانت الصلة بينهما قد عادت لتمتد من خلال القطار العائد فمن يدري؟، إذ من الوارد أن تكون عودته خطوة تفتح الباب من بعدها لخطوات في الاتجاه ذاته على نطاق أبعد.

ورغم أني تمنيت لو أنّ نبأ عودة الخط الحديدي حظي بقدر من الدعاية حول الفكرة فيه، إلا أني على جانب آخر أكاد أدعو إلى أن يعمل الخط في هدوء بعيدًا عن الدعاية، وبعيدًا عن الإعلام، وبعيدًا عن البروباجندا حتى ولو كانت بمعناها الإيجابي.

ما يجمع بين عواصم العرب أكثر مما يفرّق بينها ولا يحتاج إلى شيء قدر حاجته إلى هذه البداية البسيطة

أكاد أدعو إلى ذلك لأنّ التجارب من نوع الاتحاد المغاربي، أو من نوع أي اتحاد مماثل على اتساع الوطن الأكبر، أو حتى من نوع ما كان بين تونس والجزائر وتوقف ثم عاد، لا تسعد أعداء هذا الوطن ولا تسرهم.. لقد مات الاتحاد المغاربي في مهده، ولم يكن ليموت إلا لأسباب أقلها داخلي يخص العلاقات بين أعضاء الإتحاد في مرحلة ما بعد نشأته، وأكثرها يعود إلى الذين لا يسعدهم أن تكون الدول الخمس مجتمعة تحت مظلة كيان واحد.

قد يحمل القطار ٣٠٠ من مواطني البلدين في كل رحلة، وهذه حقيقة معلنة بالرقم، ولكن الأهم أنه سوف يحمل "فكرة" غابت ثم عادت. والفكرة هي أنّ ما يجمع بين عواصم العرب أكثر مما يفرّق بينها، وأنّ ما يجمعها لا يحتاج إلى شيء قدر حاجته إلى هذه البداية البسيطة بين البلدين المغاربيين، ثم إلى نَفَس طويل يضمن له ولها البقاء.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن