لقد سعت معظم الدول العربية منذ خمسينيات القرن الماضي إلى التخلّص من الإرث الاستعماري الثقيل بشتى الطرق، وذلك وِفق توجهات تحكمت فيها النُزوعات الإيديولوجية أو الإمكانيات الطبيعية والبشرية المتاحة؛ ففي الوقت الذي حاولت دولٌ كمصر والجزائر والعراق خوض تجربةِ عبورٍ سريعٍ نحو التصنيع الثقيل، آثرت دول أخرى كالمغرب وتونس تطوير البنية الموروثة القائمة على الفلاحة والخدمات وبعض الصناعات الاستخراجية، دون سعي حقيقي لتفكيكها أو تعويضها بقطاعات لا تراعي حاجياتها ولا إمكانياتها المتاحة؛ وهو النهج ذاته الذي سارت عليه دولٌ أخرى كموريتانيا وبعض دول الخليج العربي، التي اكتفى بعضها بالتصدير الخام للثروات الباطنية وتطوير بطيء لقطاعات مرتبطة بها كالصناعات البتروكيماوية.
سعت الجزائر ومصر إلى تخفيف تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد وهو النهج نفسه الذي سارت عليه المغرب وتونس
لم تساعد هذه التوجهات الأحادية والمتضاربة على تطوير تعاون بيني حقيقي، كما أنّها لم تسعف الدول العربية في تنويع اقتصادها وتسريع عبورها نحو مصافي الدول المتقدّمة أو على الأقل الصاعدة اقتصاديًا، كما أنه لم تُجنبها الآثار السلبية لعدد من الأزمات الاقتصادية التي عصفت بالمنطقة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات.
لقد تبيّن مع مرور الزمن محدودية التوجهات الاقتصادية المعتمدة، وهو المعطى الذي عجل بمراجعتها، حيث سعت دول كالجزائر ومصر خلال فترة الثمانينات والتسعينيات إلى تخفيف تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد والانفتاح أكثر فأكثر على شركاء جدد.
وهو النهج نفسه الذي سارت عليه دول أخرى كالمغرب وتونس، اللتين أجبرتهما الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، خاصّة بعد انهيار أسعار الفوسفات وتعاقب سنوات الجفاف وارتفاع أسعار المحروقات خلال ثمانينات القرن الماضي، على تبني مجموعة من الإصلاحات المالية والاقتصادية، نأت بالفاعل الحكومي عن الاستغلال الاحتكاري لعدد من القطاعات الاقتصادية، وحصرت دوره في التخطيط والتشريع والمواكبة والمراقبة، وفسحت المجال عبر بوابتي الخصخصة والتحرير للقطاع الخاص والمستثمرين الأجانب للاستثمار، رغبة في مضاعفة تدفق رؤوس الأموال وتنويع الاقتصاد واستحداث مناصب شغل جديدة.
بناء أنموذج اقتصادي جديد
لقد عملت معظم الدول العربية بعد تعثر توجهاتها الاقتصادية الأولى على بناء أنموذج اقتصادي يُفسح المجال أكثر فأكثر للاستثمار الخاص، وينحو باتجاه تحفيز الاستثمار في قطاعات جديدة ويفتح المجال أيضًا أمام شركاء جُدد؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، سعى المغرب على مدى ثلاثة عقود إلى إحداث تغيّر على مستوى بنيته الاقتصادية، من خلال العمل على وضع ميثاق جديد للاستثمار أواخر القرن الماضي، كان بمثابة خارطة طريق عزّزت التحوّل الاقتصادي ومكّنت من رفع قيمة التدفقات الاستثمارية الخاصة، كما فتحت قطاعات جديدة أمام الاستثمار الخاص، كانت في السابق محتكرة من قبل المؤسّسات والمقاولات العمومية.
إنّ إقرار أنموذج اقتصادي جديد، والسعي لتنزيله على أنقاض منظومة اقتصادية مركّبة ومعقّدة تطلّب مراجعة تشريعية شاملة وإعادة تعريف لأدوار كل الفاعلين، حكومة وهيئات منتخبة ومؤسّسات قضائية ورقابية، كما تطلّب مضاعفة للاستثمار العمومي وتحديث البنية التحتية ومراجعة الأنظمة الجبائية، إلى جانب اعتماد المرونة في مواجهة جيوب المقاومة والجرأة في تفكيك المنظومات الاحتكارية وِفق مقاربة جديدة تقوم على مبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
القطاع الصناعي ما تزال قدرته محدودة مقارنة بالقطاعات الكلاسيكية وهو ما يفاقم هشاشة الاقتصاد المغربي
لقد أثمرت هذه التوجهات، تطويرًا سريعًا لعدد من القطاعات في مقدّمتها قطاع الموانئ، وهو ما مَكّن اجتذاب عدد كبير من المستثمرين في قطاعات عدة، أبرزها قطاعا صناعة السيارات وأجزاء الطائرات، وهو الأمر الذي أسهم بشكل كبير في تغيير مؤشرات الصادرات لصالح الصناعة، التي تجاوزت قيمة صادرتها سنة 2023، أكثر من 18 مليار دولار، مقابل تراجع قيمة الصناعات الاستخراجية إلى أقل من ثماني مليارات دولار، وهي القيمة ذاتها التي مَثلها الإنتاج الفلاحي في حين استقرت قيمة الخدمات السياحية عند عتبة 10 مليارات دولار.
بالاستناد إلى هذه الأرقام، قد يبدو للوهلة الأولى أنّ الاقتصاد المغربي قد تمكّن من تحقيق غاية التنويع، وهو أمر صحيح جزئيًا إن اقتصرنا فقط على الأرقام المرتبطة بقيمة الصادرات، دون الأخذ بعين الاعتبار الاسهام الكلي في البنية الاقتصادية، عبر استحداث مناصب الشغل والإسهام في رفع نسب النمو العام؛ غير أنّ واقع الأمر يوحي بخلاف ذلك، فمؤشرات قطاعي الفلاحة والسياحة والصناعات الاستخراجية المتعلقة بالصادرات وإحداث مناصب الشغل، تتجاوز بشكل كبير الأرقام المتعلقة بالقطاع الصناعي، الذي ما تزال قدرته محدودة مقارنة بالقطاعات الكلاسيكية السالفة الذكر، وهو ما يفاقم هشاشة الاقتصاد المغربي ويجعل تنويع الاقتصاد غاية مؤجلة،... فأين يكمن الخلل؟.
(خاص "عروبة 22")