بصمات

في العنف الرّمزيّ

إذا كان العـنـف هـو الفـعـلُ الذي يُـلـحِـق الأذى بـمـن يـقـع عليه/عليهم، فـإنّ الأذى ليس على حـالٍ واحـدة دائـمًا؛ فـقـد يكـون بـدنيًّا، وقـد يكـون نفسـيًّا، وقـد يتعاوران مـعـًا في المفـعـول على مَـن يـقـعان عليه في الوقـتِ عـيـنـه.

في العنف الرّمزيّ

الحـقُّ أنّ إيـذاء المـرء نفـسيًّا مـن طـريق شيـطـنـتـه، أو اتّـهامِـه بالبـطلان، أو تعيـيـرِه، أو القـدْحِ فيـه، أو التّـعريضِ بـه والتّـحريض عليه... وما في معنى ذلك لا يـقـلّ وطـأةً عليه من إيذائـه بـدنـيًّا. ومـنَ النّـاس مَـن تَـشْـمَـخ بـه كـرامتُـه - بل يَـشْـمَـخ أَنْـفُـه - حتّى أنّـه قـد يتحمّـل وطـأةَ أقسى الأذى البـدنـيّ من غيـرِ أن يـتـحمَّـل مثـقـالَ ذرَّةٍ مـن الأذى النّـفـسيّ؛ لأنّ في ذلك أذًى مـعـنـويًّا يـخْـدِش في الكـرامـة. وما يـقـع للأفـراد بهـذا المعنـى يقـع للجمـاعـات، أيـضًا، بما في ذلك الجمـاعـاتُ الكبـرى مـن شعـوبٍ وأمـم.

العـنـفُ نـفسُـه، مثـل منـتـوجـه (= الأذى)، يكـون من النّـوعيْـن النّـظيـريْـن: عـنـفٌ مـاديّ وعـنـفٌ مـعـنـويّ. يتـوسّـل الأوّل منـهـما أدواتٍ وآليـات ماديّـةً مؤْذيـةً متـدرِّجًا من استخـدام القـوّة البدنيّـة والقـوّة الآليـة وصـولًا إلى استخـدام القـوّة النّاريـة، على مثـال تـدرُّجـه من العـنـف المنـزلـيّ والمدرسيّ والأهلـيّ إلى العـنـف السّيـاسـيّ (القمـع والتّـعذيـب)، ثـمّ إلى العـنـف المسـلّـح الأهـلـيّ.

بين الإيديولوجيا والعنف الرّمزيّ أكثر من علاقة تقاطُع

أمّـا الثّـانـي منـهـما فليس مبـنـاهُ على قـوّةٍ ماديّـة - عضلـيّـة أو آليّـة أو ناريّـة - مثـل الأوّل، بـل يتـوسّـل اللّـغـة وأدوات الضّـغـط والإخـضـاع النّـفـسيّ ووسائل التّشهير والتّـحريض... إلخ. ولقـد يـبـدو هـذا النّـوع الثّـانـي منـه "نـاعـمًا" أو "مخـمـليًّا" إذا هـو قـورن بالأوّل وبما فيه من القسـوة الشّـديدة، ولكـنّ الحقيـقـةَ غير ذلك؛ إذْ على الرّغـم مـن أنّـه عـنـفٌ رمـزيّ - بتعبـيـر پـيـيـر بورديـو - إلاّ أنّ آثاره السّـلـبيّـة في مَـن يـقـع عليهم شديـدةُ الوطـأة مـثـل آثـار العـنـف الماديّ... وربّـما أكثـر في بعـض حالاتـه.

بين الإيـديولوجيـا والعـنـف الرّمـزيّ أكثـر من عـلاقة تقاطُـعٍ؛ قـد تكون - في حالاتٍ منها - علاقـةَ تَـطَـابُـق. لا تَـعْـرَى الإيـديـولوجيا، هي نفسُـها، من شبـهـة التّـسلُّط مثـلها في ذلك مثـل السّياسة؛ إذْ يـدْخُـل الفـعـلُ الإيـديـولوجـيّ في جملة أفعال الإخضاع الذي به تكون سيطرةُ فاعـلٍ على آخَـر يصيـرُ موضوعَ فعله.

ولأنّ للإيـديـولوجيا هذه القـدرة على إتيـان فـعْـل الإخضاع، كان في حكـم المستَـبْـدَه أن تستصـحبَـها السّلـطـةُ (سلطة الـدّولة) وتـتـوسّـلَها أداةً في جملة عُـدّة اشتـغـالـها فـتُـنـشِئ لها أجـهـزتـها الخاصّة التي تعمـل في بيئـات وأبـنيـةٍ اجتماعـيّـة عـدّة. وهـذه هـي عيـنُـها القـدرة التي تـفضي إلى تزايُـد الطّلب عليها من قـوى المجتمع نـفسِـها، مثـل الأحـزاب والنّـقابات والمنـظّـمات المدنيّـة وروابـط المثـقّـفين ناهيـك بمؤسّسـات الدّعاية والإعلانات والتّسـويق وما شاكلـها. إنّ جاذبيّـة الإيـديـولوجيا ثـمـرةُ صلتِها بالمصلحـة وحذاقـتِها في التّـعبـير عنها وطمْـسِ ما يحـتاج إلى طمـسٍ وتظهيـرِ ما تقـضي المنـفعـةُ بتظهيـره. ولـكـنّ قُـبْـحها كامـنٌ في عنـفـها الماكـر ضـدّ مَـن تـتّخـذه هـدفًا للعـنـف. هكـذا يصيـر مـألوفًا في الـفعـل الإيـديـولوجـيّ أن ينـتـقـل مـن حالـة "الوداعـة" والاستدراج الـذّكـيّ للوعي وللشّعـور إلى حالة القـتـل الرّمـزيّ للخصـم من طـريـق شيـطـنـتـه والتّـحـريض عليه، والتّشـهيـر بـه، واخـتلاق الأباطيـل ضـدّه... إلخ، فـتـقوم في أدائـها ذلك مـقامَ أدوات القـوّة الماديّـة!

حين ينكفئ مَن وقع عليه العنفُ إلى عالمه الدّاخليّ فإنّ في ذلك ما يشي بأنّ نتائج ذلك العنف ماديّة حتّى وإنْ كان رمزيًّا

على أنّ رمـزيّـة هـذا النّـوع الثّاني من العـنـف لا تعـنـي، بأيّ حـالٍ، أنّـه غيـرُ ذي أثـرٍ مـاديّ أو أنّ آثـاره لا تُجـاوِزُ النّـطـاق النّـفـسيّ. ربّـما يـوحـي بمثـل هـذا الاعتـقـاد أنّـه يُـسـمَّـى عـنـفًا معـنـويًّا، والحـال إنّ مفـعـولـه الذي يبـدو، على الواقـع عليـهـم، مفـعـولًا نـفسـيًّا هـو - في الوقـتِ عـيـنِـه - مـفـعـولٌ مـاديّ؛ لأنّـه تـتـولّـد مـنـه نـتـائـج مـاديّـة.

حيـن يـنـكـفـئ مَـن وقـع عليه ذلك العـنـفُ إلى عـالمـه الدّاخـليّ مكـتـويًا بنيـران ذلك العـنـف؛ حين تـتـزعـزع المكـانـةُ الاعتباريّـة لـدى الملسوعين بذلك العـنـف وتـفـقـد هيـبـتها في المحيـط الاجتـماعيّ، فـيـتـحـوّلون إلى موضوعات تـلوكُـها الألسـن...، فإنّ في ذلك مـا يشي بأنّ نتائـج ذلك العـنـف ماديّـة حـتّى وإنْ كـان عـنـفًا رمـزيًّا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن