هـذا مظـهـرٌ مـن مظـاهـر التّـجافـيّ بيـن الفـكـر الفلـسفـيّ ومبادئـه ومـفارقـةٌ مـن أصـرخِ مـفارقـاتـه؛ وقـد يؤدّيـه الانـغـمار في ذلك والتّـمادي فيـه إلى حيث تُـصاب الفلسفـةُ وحُـجِّـيَّـتُـها في مقـتـلٍ حيـنـما تـبـدو للكـثـيـريـن مـن مُـريـديـها وكـأنّـها تَـلوك مـا تُـردِّده العـامّـة مـن أحكـامٍ وقـيـمٍ ليست ممحـوصـةً ولا مُـعَـايَـرةً بِـمِكـيـالِ التّـبـيُّـنِ العـقـليّ! على أنّ فـي وسع هـذا الانـحـراف في رسـالـة الفـلسفـة والفـلاسفـة - أو قُـل، هـذا التّـشـبُّـع فيـها بـقـيـمٍ مـمجـوجـةٍ لا تـنـتـمـي إلى مـا هـو عـقـلانـيّ - أن يُـظـهِـرَنـا على وجهٍ مـن وجوه الغُـلُـوّ في الفـكـر الفـلسـفـيّ الغـربـي الحديـث؛ هـو التّـمـادي في تـبـجـيـل القـوّة وتـظـهـيـر دور مبـدأ القـوّة فـي صنــاعـة الأشـيـاء والتّـاريـخ، ومـن ثـمّـة، التّـنـظـيـرُ لـه فـلـسـفـيًا.
الجامع بين فلسفتَي ماركس ونيتشه القول إنّ مبدأ القوّة هو المبدأ الحاكم في الوجود الإنسانيّ
قـد تكـون نـزعةُ التّـفـوّق والاستـعـلاءِ السّـائـدةُ فـي الغـرب، ومـا يتـولّـد منها مـن شعـورٍ بـالتّـعالي على الآخـريـن (غـير الغـربيّـيـن) أو بـاحتـقارهـم والإزراء بـهـم، التّـجـلّـيَّ المادّيَّ والاجتمـاعـيَّ الأكـثـر مبـاشـرةً لمـبـدأ القـوّة ذاك، لـكـنّـه نـادرًا مـا يتـسـلّـل إلى أفـكـار الفـلاسفـة ويـتـلـبّـسـها إلاّ مـن حيـث هـو مبـدأ مجـرّد غـيـر متـعـيّـن. مـع ذلك، كـيف للمـرء أن يمـنـع نـفسَـه، وهـو يـعـايـنُ ضُـروبًـا مـن التّـفـكـير الفـلسفـيّ غـرائـبـيّـة، مـن أن يَـعـزوهـا إلى آثـار المـوروث الاجتـماعيّ والثّـقـافـيّ فـي تـفـكير الفـلاسـفـة أنـفـسِهـم، على نحـوٍ يـبـدون معـه وكـأنّ بـعـضَـهم لا يـفـعـل سـوى إعـادة إنـتـاج الأفـكـار واليـقـيـنـيّـات السّـائـدة: أي تلك التي يُـفْـتَـرَض أن تـضـعـَهـا الـفـلـسـفـةُ مـوضـعَ فـحـصٍ نـقـديّ وأن تـدحـضَـها بـقـوّة الحـجّـة العـقـليّـة!
فـي فـلسـفاتٍ أخرى لاحـقة، بزمـنٍ يـسير، على فـلسـفـتَي كـانط وهـيـغـل سـيـزداد تـبجـيـلُ فـكـرةِ القـوّة كـثـافـةً ونـطـاقًـا تـنـظيـريًّـا وسـيُـذهـَـب فـي التّـعـبيـر عنه وعـن مـركـزيّـتـهـا فـي التّـاريخ والوجـود الاجتماعيّ إلى الحـدِّ الأبـعـد. تلك، مـثـلًا، هـي حـالُ فـلسفـة كـلٍّ مـن ماركـس ونـيـتـشه مـع ما بينهـما من اخـتـلافٍ شـديـدٍ في المُـنـطـلقـات ومـا في نظـر كـلٍّ منهـما إلى مبـدأ القـوّة، وإلى ميـدان تجـلّيـه، مـن مسـافـةِ تـباعُـدٍ وافـتـراقٍ مـردُّها، بالطّـبع، إلى اختلاف المبادئ الفـلسفـيّـة وتَـمايُـز الإشكاليّـات التي يخوضان فـيها، فـضلًا عن اختـلاف نظام المفاهيـم لديهما.
الجامعُ بين فـلسفـتَي مـاركس ونـيـتـشه القـولُ إنّ القـوّةَ مـبـدأ يتـجـسّـد في الصّـراع، داخـل المجـتمع والتّـاريخ، وإنّ مـبـدأ القـوّة هـو المبـدأ الحـاكـم في الوجـود الإنسانـيّ. مـا خـلا هـذا الاتّـفـاقَ على العـامّ بـيـنـهُما، يخـتـلـفان في الكـثـير: في ميـدان تجـلّـي مبـدأ القـوّة وأطـرافِ عـلاقـتـه، وفي وظيـفـة الصّـراع عـنـد هـذا وذاك، ثـمّ فـي حـكـم القـيمـة تجـاه مـبـدأ القـوّة لـدى كـلٍّ مـنـهـما.
الصّـراع، في فـلسفـة مـاركس، صـراعٌ بيـن المالكيـن (لوسائـل الإنـتـاج) والمحـروميـن منها الذين لا يمـلـكون إلاّ قـوّة العـمـل يـبـيـعونها؛ وهـو صـراعٌ يـدور على الثّـروة والحـقـوق المادّيّـة الاجـتـماعيّـة - الاقـتصاديّـة. أمّـا الصّـراع، في فـلسفـة نـيتـشه، فـصراعٌ بيـن السّـادة والعـبيد وميـدانُ تـجـلّـيـه الأخـلاق؛ وهـو يـدور بين أخـلاق القـوّة والسّـيادة وأخـلاق الخـنـوع والاستـكـانـة، ويـتـقـمّـص فيه الضّـعـفـاء المغـلوبـون أدوارَ المـدافـعـيـن عـن القيـم الإنسانـيّـة والسّـلام والمحـبّـة (على مـنـوال مـا تـقـدّمـه الأخـلاق المسيـحيّـة في نظـر نـيـتـشـه) قـصـد إخـفاء دونـيّـتـهـم. وكـمـا أنّ السّـادة لا يـكُونـون سـادةً إلاّ بـقـوّةٍ يـفـرضـونـها - يـقـول نـيـتـشـه - كذلك لا تستطيع الطّـبقـات المالكـة للإنـتـاج أن تحـافـظ على سيطرتها على الثـروة ووسائـل الإنتاج إلّا من طـريق فـرض سيطرتها على السّـلطة السّياسيّـة وتسخيرِ أدوات القـوّة لقـمـع كـلّ تطـلُّـع نحـو التّحـرّر من استـغلال الرّأسمال للعـمـل. في المـقابـل، يـُمــنـع على الطّـبـقـات المحـرومـة أن تـتـحرّر مـن عـلاقات الاستـغـلال، وأن تـبْـسُـطَ سـيـطرتَـها المباشـرة على وسائـل الإنـتاج، إن لم تَـقُـم بـثـورةٍ اجـتـماعـيّـةٍ تسـيطر فيها على السّـلطـة السّياسيّـة وتـفرض ما سـمّـاه كـارل مـاركس بـ"ديـكـتـاتـوريّـة البرولـيتـاريـا" التي سـيـنُـظِّـر لـهـا ليـنـيـن فـيمـا بعـد.
لم يكن كانط أوّل مُشرعن للعنصريّة ولا هيغل أوّل مُدافع عن تفوّق الغرب وعن مبدأ المركزيّة الغربيّة
لـم يـذهـب مـاركس إلى حـدّ تـقـديـس القـوّة كـما فـعـل نـيتـشـه، لـكنّ فـلسـفـةَ كـلٍّ مـنـهـما أشاعَـت قـيـمًا كـثـيـرةً جـديـدةً استـبـدهـت العـنـف وبـرّرتْـهُ في المجتمع والسّياسـة. على أنّ مـاركـس ونيـتـشـه لم يكـونـا، قـطـعـًا، مـن أوائـل المـدافعـيـن عـن مـبـدأ القـوّة، تمـامـًا مثـلـما لـم يـكـن كَـانْـط أوّلَ مُشـرعـنٍ للعـنـصـريّـة ولا هـيـغـل أوّلَ مُدافـع عـن تـفـوّق الغـرب وعـن مـبـدأ المـركزيّـة الغـربـيّـة...؛ فـلـقـد كـان هـؤلاء يـردِّدون، بـمعـنـى مـا، أفكـارًا سائـدةً في أوروبا الحديثة أكثـر مـمّـا كـانوا يبـشّـرون بـأفـكـارٍ جـديـدة... حتّى وإِنْ نَـظَّـروا لها.
(خاص "عروبة 22")