يبدو فيلم "Civil War" للمخرج البريطاني أليكس جارلاند، أقرب ما يكون إلى جرس إنذار مبكر، لمآلات ما قد تنتهي إليه حالة الاستقطاب الحاد، التي يعيشها المجتمع الأمريكي، والتي بلغت ذروتها بمحاولة الاغتيال الفاشلة للمرشح الرئاسي دونالد ترامب، ومن قبلها بنحو عامين، الهجوم الذي استهدف زوج النائبة الديمقراطية نانسي بيلوسي، وهي حالة لم تغفلها العديد من استطلاعات الرأي الأمريكية، التي تشير بوضوح إلى أنّ نحو 43% من سكان الولايات المتحدة، باتوا يعتقدون أنّ الحرب الأهلية قد أصبحت احتمالًا واردًا، في البلاد التي أُسّست على التعددية العرقية والديمقراطية وقبول الآخر.
يندرج فيلم "حرب أهلية" الذي قامت ببطولته كيرستين دانست، ضمن قائمة ما يُعرف بـ"أدب الديستوبيا"، والذي بدأ في الانتشار مع الثورة الصناعية، وما صاحبها من اتساع للفوارق الاجتماعية بين العمال وطبقة الأثرياء، ما دفع الأدباء وقتها إلى الإغراق في التشاؤم، عبر تقديم تصورات شديدة الظلمة عن مستقبل، يواجه فيه الإنسان العديد من الكوارث المفزعة، في ظل سيطرة طغمة من الفاسدين على الحكم، وما تؤدي إليه سياساتهم من نتائج تفقد الناس مواردهم وحرياتهم وربما إنسانيتهم أيضًا، عندما تضيع المسافة بين الغنى والفقر، والعدالة والظلم، وربما الحياة والموت، تحت وطأة حكم شمولي ظالم.
لم يكن من قبيل المصادفة، أن تبدأ أحداث فيلم "حرب أهلية"، وهو واحد من بين نحو عشرة أفلام أو يزيد ناقشت تلك القضية، من قلب صراع افتراضي يندلع عقب انفصال ولايتي تكساس وكاليفورنيا، واتحادهما تحت لافتة "الجبهة الغربية" للإطاحة بالحكومة المركزية. ورغم أنّ مخرج الفيلم يقول بوضوح إنه لا يتعمد عقد أي مقاربة مع أي من المعارك السياسية الجارية، إلا أنّ القصة تبدو أعمق وتلامس كثير من التخوفات، التي لا تتعلق فحسب بتلويح حاكم تكساس جريج آبوت مطلع العام الجاري، بالانفصال عن الحكومة المركزية على خلفية أزمة المهاجرين.
وقد بدت تصريحات آبوت بمثابة تجسيد حيّ لنزعات الانفصال والاستقلال التي لازمت تاريخ ولاية تكساس، منذ انفصالها عن المكسيك عام 1836 وتحوّلها إلى جمهورية مستقلة، قبل أن تضمها الولايات المتحدة عام 1845، وإنما تمتد أيضًا لحالة انعدام الثقة الحاصلة بين قطاعات واسعة من الأمريكيين، وكثير من مؤسساتهم الكبري، وهي الحالة التى بلغت ذروتها منذ منتصف العام الماضي، وأدت حسبما تقول استطلاعات الرأي إلى أنّ نحو 26% فقط من الأمريكيين يثقون في الدور الذي تلعبه مؤسسة الرئاسة في البلاد، ونحو 8% فقط يثقون في الكونجرس!.
يقدّم فيلم "حرب أهلية" مشاهد مفعمة بالأسى، بعيون فريق من الصحفيين، يتوجهون في رحلة إلى البيت الأبيض لإجراء مقابلة مع الرئيس، الذي يضرب عرض الحائط بالدستور، ويخترق الفريق الصحفي، في رحلته، الولايات الشرقية وسط أنقاض المباني المدمّرة، التي تعكس مدى وحشية الحرب الأهلية، قبل أن يصل إلى ذروته بوصول الصحفيين إلى البيت الأبيض المحاصر من قوات "الجبهة الغربية"، الذين لا يتنازلون عن تنفيذ مخططهم باغتيال الرئيس، ورفض كل مبادرات الحوار أو التفاوض معه، حول خروج آمن.
يربط كثير من المراقبين بين ارتفاع وتيرة الانقسام في المجتمع الأمريكي، وحركة الاحتجاجات التي أعقبت مقتل الشاب الأسود جورج فلويد في عام 2020، ويقولون إنّ هذا الحادث تسبب فى حدوث انقسامات عميقة بين الأمريكيين الذين تحولوا إلى فريقين، أحدهما مؤيد لعناصر الشرطة التي نفذت عملية القتل، والآخر متضامن كلية مع حركات احتجاجات السود، لكن آخرين يذهبون إلى أنّ الأمر أعمق بكثير من حادث فلويد، وربما أيضًا من قبل واقعة اقتحام "الكابيتول"، وأنّ القصة ربما تبدأ من حملة ترامب الرئاسية في عام 2016، التي تميّزت بالعنف في خطابه السياسي، ومسيراته الانتخابية التي لم تخلُ من اعتداءات من قبل القوميين البيض على المهاجرين، وقد بلغ الأمر حد قيام رجلين من أنصار ترامب، بالتبوّل على لاتيني بلا مأوى في ولاية بوسطن بعدما أوسعوه ضربًا، قبل أن يقف أحدهم بصفاقة ليقول للصحفيين: "لقد كان ترامب على حق عندما قال إنه يجب ترحيل كل هؤلاء المهاجرين من بلادنا".
تبدو الصورة في المجتمع الامريكي مليئة بالتناقضات، فى مجتمع مسلّح بطبيعته، إذ تُقدّر الإحصاءات الرسمية، عدد قطع السلاح المنتشرة في أيدي الأمريكيين بنحو 400 مليون قطعة سلاح، في ظاهرة تستدعي القلق، خصوصًا في ظل التجاذبات التي أفضت إلى معادلة شديدة الغرابة، تضع الحكم الفيدرالي في مواجهة الحكم المحلي، والأغلبية في مواجهة الأقليات، وربما تضع الدولة في مواجهة الفرد، في وقت يعاني فيه المجتمع الامريكي من إشكاليات عدة، على رأسها حسبما يقول السفير محمد توفيق، سفير مصر الأسبق في واشنطن، "إشكالية توزيع الثروة، التي تشير إلى أنّ نحو ١% من الأمريكيين يمتلكون ٤٢,٥% من الثروة القومية بالبلاد، بينما يعيش نحو ٣٨,١ مليون تحت خط الفقر"، وفق البيانات الصادرة عن هيئة الإحصاء الأمريكية لعام ٢٠١٨.
هذه الفجوة التي أخذت في الاتساع منذ منتصف التسعينيات، أدت بحسب دراسة لـ"معهد بروكنجز"، وهو أحد أشهر المؤسسات البحثية التي تُعنى بالسياسات العامة في أمريكا، إلى تفاقم حالة الاستقطاب السياسي، وتعاظم تأثير اليمين الشعبوي من جهة، واليسار الاشتراكي من جهة أخرى، على حساب الوسط في الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، وهو ما يعني أنّ قضايا العدالة الاجتماعية، سوف تسبب مزيدًا من الاضطراب في السياسة الداخلية الأمريكية في المستقبل المنظور.
(خاص "عروبة 22")