وجهات نظر

"الحقوق والحريات".. والتوزان المختل بين السلطة وممثلي المجتمع

بينما كان الرأي العام المصري ينتظر الاستجابة لمطالبه بفتح المجال العام وتوسيع هامش الحرية، وإعادة النظر في التشريعات التي صدرت بسبب الأوضاع الاستثنائية التي مرت بها البلاد خلال العقد الأخير وساهمت في خنق المناخ السياسي وحصار وسائل الإعلام وشل حركة منظمات المجتمع المدني، بدأت اللجنة التشريعية بمجلس النواب في مناقشة تعديلات قانون الإجراءات الجنائية، والتي في حال إقرارها سيتم وأد كل الجهود الرامية إلى وضع البلاد على مسار الإصلاح الديمقراطي.

المفارقة، أنه وبعد أيام قليلة من توافق المشاركين في الحوار الوطني على ضرورة تعديل مواد الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية القائم، والتي تتيح لسلطات التحقيق حبس المتهمين وخاصة أصحاب الرأي والمعارضين فترات طويلة دون إحالة إلى المحاكمة، طرحت اللجنة البرلمانية تعديلات على كامل مواد القانون - تتضمن تعديلات على مواد الحبس الاحتياطي - تخالف نصوص الدستور المصري وعددًا كبيرًا من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي وقّعت عليها مصر.

تعدت التعديلات على حق المتهم والدفاع وأهدرت المبدأ الدستوري الخاص بعلانية المحاكمات

مواد مشروع القانون، شرعنت الكثير من الممارسات التي كانت تتم خارج إطار القانون أو بموجب قوانين وضعت في مرحلة استثنائية كانت الدولة تخوض فيها مواجهات مع جماعات وتنظيمات إرهابية، وتوقع البعض أن يُعاد النظر فيها بعد إغلاق هذا الملف، لكن ما حدث أنه وبالرغم من إعلان رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي أنّ الدولة نجحت في القضاء على الإرهاب، ومن ثم انتفت الحاجة إلى استمرار الممارسات غير المقننة أو القوانين الاستثنائية، أخرج نواب البرلمان من جعبتهم مشروع قانون، يشرعن ما كان يحدث من تجاوز وإهدار للحقوق والحريات ليضاف إلى المنظومة التشريعية التي تتضمن بالفعل ترسانة من القوانين المكبلة.

منحت مواد المشروع سلطات واسعة للنيابة العامة ومأموري الضبط، وقلصت سلطة القضاء في الإشراف والرقابة على تصرفات النيابة العامة فيما تتخذه من إجراءات، وهو ما يؤثر على مجريات سير العدالة، ويشكك في الإجراءات المتبعة والتي من المفترض أنها تحافظ ليس على حقوق أطراف أي قضية بعينهم بل على حق المجتمع بكامله.

وكما تعدت التعديلات على حق المتهم والدفاع، إذ سمحت للنيابة العامة بإجراء التحقيق في غيبة المدعى عليه ومحاميه، ومنحت صلاحيات واسعة لمأموري الضبط القضائي في التحقيق مع المتهمين واستجوابهم ومراقبتهم وتتبع مراسلاتهم ومكالماتهم وانتهاك حرمة حياتهم الخاصة ومنعهم من السفر والتحفظ على أموالهم، أهدرت أيضًا المبدأ الدستوري الخاص بعلانية المحاكمات وحقوق المواطنين في متابعة ما يدور في قاعات المحاكم خاصة في القضايا التي تهم الرأي العام.

المقصد الأساسي لأي قانون للإجراءات الجنائية في العالم، هو توفير ضمانات العدالة، والحافظ على حقوق المتهم باعتباره "بريء حتى يثبت القضاء إدانته"، وما يترتب على ذلك من ضمان حق الدفاع في القيام بواجبه تجاه المُدعى عليه، وصون حقوق المجتمع بما فيها الحق في المعرفة والمتابعة.

مصر ليست في حاجة إلى مزيد من القوانين المكبلة للحقوق والحريات 

مشروع القانون المطروح للنقاش قيّد معظم هذه الحقوق، ومنح ممثلي النيابة العامة ومعهم مأموري الضبط سلطات وصلاحيات، ما يخل بميزان العدالة ويرفع من على عينيها العصبة التي تجعلها عمياء لا تعرف الانحياز أو الهوى.

اعتبر الدستور المصري "علانية المحاكمة" حقًا للمجتمع، مع ذلك خالف المشرعون الذين يناقشون مواد القانون الجديد القاعدة الدستورية، ومعها العديد من مواد العهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ووضعوا قيدًا على هذا الحق بإضافة نص يمنع نقل وقائع الجلسات إلا عبر موافقة كتابية من رئيس الدائرة وبعد إذن النيابة العامة.

الاستثناء أن تكون جلسات المحاكم سرية "مراعاةً للنظام العام"، لكن الأصل هو العلانية، ولا يجوز النطق بالحكم إلا في جلسة علانية، وعندما أقر المشرع الدستوري مبدأ العلانية، كان هدفه أن يظل الرأي العام مطلعًا على إجراءات المحاكمة فيدعم الثقة في القضاء والاطمئنان إلى عدالته.

السلطة لا تتنازل عن الصلاحيات التي أحكمت السيطرة عليها إلا بوجود أحزاب ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني قوية

مصر ليست في حاجة إلى مزيد من القوانين المكبلة للحقوق والحريات فلديها ما يكفي لوضعها في مراكز متأخرة في التقارير الدولية التي ترصد أوضاع حقوق الإنسان في دول العالم، فتصنيف مصر في آخر تقرير لمنظمة "مراسلون بلا حدود" جاء في المرتبة 170 ضمن 180 دولة حول العالم شملها التقرير، وفي مؤشر سيادة القانون لعام 2023 الصادر عن مشروع العدالة العالمية (WJP) احتلت المرتبة 136 من أصل 142 دولة على مستوى العالم،، وفي مؤشر الديمقراطية الذي صدر في العام نفسه عن وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمؤسسة الأكونوميست جاءت في المركز 127 من أصل 167 دولة وصنّفت على أنها من بين الدول الاستبدادية. كما ذكرت منظمة الشفافية العالمية في تقريرها السنوي الخاص بمؤشر مدركات الفساد أنّ مصر حصلت على 35 درجة من أصل 100 درجة لتحتل المرتبة 108 من أصل 180 دولة.

لا يمكن أن تصدر قوانين تدعم الحقوق والحريات في ظل اختلال التوزان بين ممثلي المجتمع ومؤسسات الدولة الحاكمة، فالسلطة لا تتنازل عن الصلاحيات التي جمعتها وأحكمت السيطرة عليها إلا بوجود أحزاب ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني قوية وقادرة على ممارسة حقوقها السياسية الدستورية سواء بالحوار أو الضغط، ساعتها يمكن أن تنعدل الكفة وتصدر قرارات وقوانين تعبّر عن مصالح فئات المجتمع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن