تقدير موقف

مجتمع عربي تحت المجهر: إحذر.. "الأخ الأكبر" يُراقبك!

في العام 1949، صدرت رواية جورج أورويل "1984"، واعتُبرت من أشهر الأعمال الأدبية التي تناولت موضوعات المراقبة، وتغيير الحقائق. في هذه الرواية ظهرت شخصية مُفترضة "الأخ الأكبر" لتمثيل الحكومة التي تراقب جميع جوانب حياة المواطنين وتتحكم فيها، بما في ذلك أفكارهم وسلوكهم، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالخوف والترهيب بشكل دائم، ولربما كانت تلك هي الحالة التي تنطبق على العالم اليوم.

مجتمع عربي تحت المجهر: إحذر..

تُقدّر الدراسات الإحصائية حول تفاعلات الإنترنت، أنه في العام 2024، بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العالم حوالى 5.35 مليار شخص. وهي نسبة تقارب 66% من سكان العالم، في حين بلغت نسبة مستخدمي الانترنت العرب حوالى %70 من إجمالي عدد السكان، وهي نسبة عالية جدًا على المستوى الكمي للاستخدام. يقوم هؤلاء بإرسال أكثر من 150 مليار رسالة فورية يوميًا عبر تطبيقات مثل واتساب وفايسبوك وميسنجر، كما أظهرت إحصائيات غوغل للعام نفسه أنّ مستخدمي الأندرويد يرسلون للعالم يوميًا 93 مليون سيلفي.

استنادًا إلى هذه الأرقام نستنتج أنه لم يحدث من قبل في تاريخ البشرية، أن قام مثل هذا العدد الكبير من الناس بإرسال ورصد وتصوير وذكر تفاصيل كثيرة عن حياتهم الشخصية والعامة أمام مثل هذا الجمهور الكبير، وهو الأمر الذي يضعنا أمام تصوّر جديد حول آليات المراقبة الرقمية وسطوتها، ضمن شبكات اجتماعية تتحوّل نحو المعيارية وتكوينات السلطة/المعرفة بشكل متصاعد.

منصات عالمية ومؤسسات الاستخبارات حول العالم تركز جهودها على تكميم تفاعلات الشبكات الاجتماعية العربية

عربيًا، وابتداءً من سنة 2014، استنتج الكثير من المستخدمين أنّ الفضاء الرقمي العربي أصبح مُراقبًا ومُسيطرًا عليه من طرف الشركات والسلطات الأمنية، خاصة مع تراجع وانحسار ثورات الربيع العربي، وتزايد نفوذ الأنظمة العربية التي راحت تتنافس لاقتناء أعتى تطبيقات المراقبة والتجسس – بريداتور/Predator وبيغاسوس/Pegasus، وكذلك أدوات مثل فحص الحزم العميقة (DPI) التي تراقب حركة مرور الإنترنت وتعمل على تصفية المحتوى، وتقوم بسن وتطبيق المزيد من القوانين والإجراءات التأديبية على المستخدمين 'المنحرفين' - أي أولئك الذين يشذ سلوكهم عما هو مرغوب ومنضبط كما تعلنه المنصات العالمية في سياسات استخدام منصاتها، أو الحكومات العربية في إطار سياستها الأمنية -، بهدف ضبط الذات الشبكية وتنظيم الفضاء الرقمي العربي.

وعندما يتم أحيانا الكشف عن مثل هذه الممارسات من طرف وسائل الإعلام والهيئات الحقوقية، يظهر ذلك كنوع من الدعاية وإعادة إنتاج تأثير المراقبة والتأديب على الذات الشبكية، مما ينتج نوعًا من الوعي الجمعي حول سطوة المراقبة الحديثة وزيادة نفوذها، يتحول وبطريقة آلية، نحو وعي ذاتي لدى الشبكيين العرب بأنهم تحت المراقبة، وأنّ الآثار الرقمية التي يتركها كل فرد منهم تُجمَع وتُحلّل بطرق وأغراض لا يعرفها، وفي أوقات غير معلومة لديه، عند هذا المستوى نتوقع أن يبدأ الأفراد في ممارسة نوع من الانضباط الذاتي، والحذر والتأني في التعبير وإبداء الرأي أو التفاعل حول كل ما ينشر في الفضاء الرقمي العربي والعالمي.

على نحو عالمي عابر للحدود العربية، ما يجري حاليًا هو أنّ عددًا من المنصات العالمية الكبرى ومؤسسات الاستخبارات والأمن القومي حول العالم، والشركات، ومراكز الدراسات والأبحاث، تركز جهودها على تكثيف دراسة وتكميم تفاعلات الشبكات الاجتماعية العربية، وذلك من خلال تطوير خوارزميات حاسوبية تسمح بجمع وحساب وتحليل الآثار التي يتركها المستخدمون العرب على شبكة الويب (الصور الشخصية، علامات الإعجاب، التعليق، الشراء، المتابعة..) بغية الوصول إلى بيانات ضخمة حول "الأفراد الحقيقيين" الموجودين خلف الحواسيب، حيث "نجح فايسبوك في جمع بيانات عن أكثر من 1.5 مليار من مستخدميه وكذلك غير المستخدمين الذين يتتبع أيضًا نشاطهم عبر الإنترنت، كما قدّم مركز 'كارينجي للشرق الأوسط' سنة 2015 مجموعة فريدة من البيانات تم جمعها من على منصة X في مختبر وسائل الإعلام الاجتماعية والمشاركة السياسية في جامعة نيويورك تضم 160 مليون تغريدة جُمعت من الفضاء الرقمي العربي.

يتبع أساليب المراقبة تلك، اتخاذ مجموعة من الإجراءات التأديبية، منها دعوة السلطات العربية المنصات الكبرى إلى حذف المحتوى الرقمي، حيث تُعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكثر دولة في العالم تقدّمت لدى شركة 'غوغل' بطلب حذف محتويات، كما يحتل الكيان الصهيوني المرتبة الأولى في الشرق الأوسط من حيث الطلبات، أيضًا جل البلدان العربية، تقدمت بطلبات لدى منصة 'غوغل' لحذف محتويات رقمية لا تناسب توجهاتها، واحتلت دولة الإمارات المرتبة الأولى عربيًا من حيث عدد الطلبات، بحسب إحصاءات Google Transparence.

كل الأجهزة الحاسوبية المبثوثة في الفضاء تراقبك وتخزن تفاعلاتك

كما قامت "هيومين رايتس" بمراجعة الأدلة والسياق المرتبط بالوقائع التأديبية والعقابية الآلية، التي لحقت عددًا من المستخدمين، تم تحديد 6 أنماط رئيسية للرقابة غير المبررة منها:

1- إزالة منشورات وقصص (ستوري) وتعليقات.

2- التعليق أو التعطيل الدائم للحسابات.

3- القيود المفروضة على القدرة على التعامل مع المحتوى - مثل الإعجاب والتعليق والمشاركة.

4- القيود المفروضة على القدرة على متابعة الحسابات.

5- القيود المفروضة على استخدام ميزات معينة.

6- حجب الظهور الجزئي shadow banning)) وهو الانخفاض الكبير في ظهور منشورات، بسبب خفض توزيع المحتوى أو الوصول إليه.

عند هذا المستوى ولأول مرة في تاريخ المجتمع الحديث، تم نزع الصفة الشخصية/الإنسانية عن أدوات السيطرة والمراقبة، ونقلها إلى قوى آلية لا شخصية أكثر قمعًا وسيطرة وترهيبًا، فليس الأخ الأكبر هو من يراقبك اليوم، ولكن كل الأجهزة الحاسوبية المبثوثة في الفضاء من حولك، تراقبك، وتخزن تفاعلاتك، وتصنّفك إلى الأبد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن