بصمات

صراع القرن بين أحفاد الطهطاوي وأبناء سيد قطب (2/2)

كأن التاريخ الفكري يمضي بالمقلوب، يجود علينا الزمان في أوائل القرن التاسع عشر بمفكر مثل رفاعة رافع الطهطاوي، ثم بعد أكثر من قرن يعود الزمن في أواسط القرن العشرين ليقذف في وجوهنا بأفكار سيد قطب قنبلة موقوتة ما تزال تنفجر شظاياها حتى اليوم.

صراع القرن بين أحفاد الطهطاوي وأبناء سيد قطب (2/2)

تفصل بين رحيل الرجلين 93 سنة، رحل الطهطاوي من 151 سنة في 27 يوليو/تموز 1873، ورحل قطب من 58 سنة في 29 أغسطس/آب 1966، ورغم مرور كل هذا الوقت ما يزالان حاضرين في معارك اليوم بين أحفاد الطهطاوي وأبناء قطب.

كان وصول "الإخوان" إلى سدة الحكم في أكثر من بلد عربي عقب ثورات ما عُرف بالربيع العربي، واحدة من ذرى الصراع القائم منذ قرن من الزمان، يراه البعض صراعًا بين الإسلام وأعدائه، ويراه كثيرون صراعًا بين التقدم والتخلف، بين التطلع إلى نهضة العرب والمسلمين، وبين محاولات تكريس التخلف الذي فُرض على بلادهم طوال عهود طويلة.

كيف وصلنا إلى "الإخوان"؟

تبدت المفاجأة في السؤال، كما بدت الحسرة على مسيرة قرنين من انطلاق شعلة التنوير، وظهر دعاة الدولة الدينية في صورة المنتصرين الذين يتأهبون للانقضاض على الدولة المدنية التي فشلت في أن تطور نفسها وتعمق مدنيتها وتسلح نفسها بديمقراطية حقيقية.

المفكر الفرنسي جاي سورمان الذي دُعي أعقاب "ثورة يناير" إلى ندوة بالمركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة تحت عنوان "المغامرة الواقعية للديمقراطية والليبرالية الاقتصادية: من رفاعة الطهطاوي إلى 25 يناير"، ردَّد خلالها الفكرة الرئيسية في كتابه "أبناء رفاعة الطهطاوي - مسلمون وحداثيون" الذي أصدره في ظروف ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2002.

واجه الطهطاوي مجتمعًا غارقًا في التخلف بينما خاض قطب معركته ضد مجتمع ناهض

فكرة "جاي سورمان" تقول إنّ صراعًا بين تيارين يخترقان العالم العربي، الأول سماه بالتيار النهضوي الذي أسس بنيانه رفاعة الطهطاوي في عهد محمد علي، والثاني سماه بالتيار الأصولي الذي دشن افتتاحيته بعد قرن من الزمان سيد قطب في عصر جمال عبد الناصر.

والحق أنّ الطهطاوي الذي واكب إصلاحات محمد علي، وعاصر خلفاءه؛ إبراهيم باشا وعباس الأول وسعيد باشا والخديوي توفيق، تمكن رغم عوائق كثيرة أن يضع حجر الأساس لنهضة مصر الثقافية، واستطاع أن يرسي قواعد التأسيس لتيار فكري ظل يتنامى ويتوالد ويكبر وينمو وأتى حصاده تنويرًا وقادة فكريين على مدار عقود طويلة.

من عباءة الطهطاوي خرج الكثير من أعلام الفكر المصري الحديث، تجده عند كل أساس لكل مناحي الفكر والثقافة المصرية الحديثة، أول من سقى بذرة الفكرة الديمقراطية في الأرض المصرية مع أول كتبه وأشهرها، كتاب "تخليص الابريز"، وهو واضع أساس النظرة الجديدة إلى المرأة ودورها في المجتمع قبل 50 سنة من قاسم أمين.

وقد جاء الانقطاع الأهم - بل والأخطر- على هذا المسار مع انقلاب سيد قطب على إرث التنوير كله، بل انقلب على نصف حياته الأول، ليصنع في نصفها الثاني جملة اعتراضية مفخخة على المسار الذي شق مجراه الطهطاوي، وتبدى هذا الانقلاب في كتابه "معالم في الطريق".

كانت الأمّة في الربع الأول من القرن التاسع عشر تواجه سؤال الحداثة والتقدم، وجاء رفاعة ليطرح إجابته في العلم والتعليم وتطوير المجتمع، ثم كانت الأمّة في أواسط القرن العشرين أمام أسئلة الحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي فانتكست إجابة قطب إلى المفاصلة مع المجتمع، والصدام معه، ووصمه بالجاهلية، وتكفيره بالجملة.

المفارقة بين الموقف والموقع الفكري لكل من الطهطاوي وقطب محزنة، الأول واجه مجتمعًا غارقًا في التخلف والرجعية والجمود والانغلاق، بينما خاض قطب معركته ضد مجتمع ناهض وأفكار أكثر حداثة، بعد قرن من النضال الشعبي والتدافع الفكري كانت بوصلته متجهة على الدوام إلى التقدم.

ساهمت أفكار الطهطاوي ومنهجه الإصلاحي في تخليق حركة فكرية مجتمعية إصلاحية واسعة، بينما ساهمت أفكار قطب ومنهجه في تخليق تيار تكفيري يتبنى العنف وسيلة ومنهاجًا للتغيير.

خلَّف الطهطاوي من ورائه تيارًا قاد مصر في نهضتها الحديثة، قدم للأمّة أكثر من ألفي كتاب خلال أقل من أربعين عامًا، ما بين مؤلف ومترجم، وكان أسوأ ما خلّفه قطب تلك الأجيال التي تتابعت على طريق الإرهاب باسم الدين.

العرب والمسلمون في أمَسّ الحاجة إلى مشروع تنويري يُعيد الاعتبار لقيم العقل والعدالة والحرية والمساواة

مشكلة سيد قطب - كما هي أزمة الحركة الإسلامية التي ظهرت بعد سقوط الخلافة العثمانية - أنهم رفعوا سؤال الهوية في مواجهة أسئلة التحديث والحرية والعدل الاجتماعي والنهضة.

الطهطاوي بدون شك هو رائد التنوير الأول في العصر الحديث، وأحفاده بتنوعاتهم الفكرية يمضون على الطريق التي بيَّن معالمها، وأرسى دعائمها، وعلى الطريق العكسي كان قطب بدون لبس هو حادي التكفير في تاريخنا المعاصر، وأبناؤه اليوم يواصلون مسيرة الدم، ويتواصلون على مسار العنف.

العرب والمسلمون كانوا وما يزالون في أمَسّ الحاجة إلى إصلاح شامل، ديني، سياسي، واقتصادي، ومجتمعي، إصلاح يقوده مشروع تنويري متكامل يُعيد الاعتبار لقيم العقل والعدالة والحرية والمساواة، وهو المشروع الذي لا يمكن له أن يولد على يد نُخبٍ ملحقة بأجندة الاستبداد في الداخل، أو غارقة في مستنقع التبعية للخارج.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن