بصمات

ثقافة "الإنكار" وتكرار الأخطاء نفسها

إذا كانت ثقافة الاعتراف قائمة على تثمين الجهود الفردية والجماعية بحكم عدم تنصّلها من إنجاز المراجعات الضرورية بحثًا عن الحقيقة وتكريسًا لمبادئ المساواة والعدالة والتعدّدية، فإنّ "ثقافة الإنكار" - على النقيض من ذلك - يوجّهها منطق الاحتقار والعناد والتنصّل من المسؤولية عند حدوث انكسارات أو نكسات اجتماعية وحضارية ما. لذا فهي لا تحفل بالنواميس التاريخية والنسبية والسببية والمعقولية.

ثقافة

لا تخلو الحضارة العربية الإسلامية من ممارسات سياسية وسلوكيات اجتماعية تشي بترسّخ "ثقافة الإنكار" علامة بارزة في عديد المنعطفات التاريخية. ولو اقتصرنا في رصدها على المرحلة التاريخية الحديثة والمعاصرة لاكتشفنا بسهولة حجم الكوارث والنكسات التي ابتُلي بها العالم العربي منذ الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بداية القرن العشرين إلى مآلات الانتفاضات العربية مخيّبة الآمال بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مرورًا بالنكبة سنة 1948 والنكسة سنة 1967 وحروب الخليج وغيرها.

كان القاسم المشترك بين مختلف تلك الخيبات سطوة ثقافة الإنكار والتنصّل من المسؤولية التي تتجلّى بوضوح في سطوة الطابع الاتّهامي بين مختلف الفاعلين المؤثّرين الذين كان لهم دور بارز في صيرورة تلك الأحداث وتطوّراتها. إذ يندر وجود شكل من أشكال الاعتراف الذاتي والإقرار بالمسؤولية في الأخطاء التقديرية المتسبّبة في تلك النكسات، فضلًا عن بخس جهود الآخرين و"تقزيمهم". وهو ما يُفسّر تشابه المآلات والنتائج في ظلّ غياب إرادة أو حتّى لا نقول "استراتيجيا" لتجنّب تكرار تلك الأخطاء وتفاديها.

مذكّرات السياسيين العرب يغلب عليها الطابع التمجيدي للذات وتحميل الآخرين مسؤولية الخيبات والفشل والهزائم والمحن

تشهد على ذلك عديد القرائن الأخرى، ومنها نوعية المذكّرات والسير الذاتية وغيرهما من كتابات للفاعلين السياسيين والاجتماعيين بالمنطقة العربية. إذ على خلاف مذكّرات النخب السياسية الغربية التي تحضر فيها أشكال من الاعتراف بالأخطاء أو بـ"الذنوب"، فإنّ مذكّرات السياسيين العرب خاصّة يغلب عليها الطابع التمجيدي للذات والمنطق التبريري للسياسات الخاطئة والخيارات الفاشلة، وتحميل الآخرين مسؤولية الخيبات والفشل والهزائم والمحن. وهو ما يفقدها كلّ قيمة تاريخية وإنسانية. ويجعلها شكلًا من أشكال التعويض لأصحابها الذين لفّهم النسيان بمجرّد خروجهم من السلطة وكواليسها.

لعلّ من المفارقات أنّ ثقافة الإنكار والإصرار على تكرار الأخطاء نفسها تطوّرت أكثر بالتزامن مع الثورة المعلوماتية والاتّصالية وتشكّل ما يُصطلح على تسميته بـ"المجتمع الشبكي"، في وقت كان فيه من المنتظر انقراضها وتلاشيها. وهذا لا يرجع فقط إلى تجذّرها وترسّخها في التركيبة الذهنية والنفسية للأفراد، وإنّما كذلك إلى أنّ ذلك التطوّر التقني والتكنولوجي لم تواكبه تطوّرات في الثقافة وأنساقها التي تعزّز الملكة النقدية بما يسهم في ترشيد استخدام تلك الوسائط الإعلامية والاتّصالية المتطوّرة في التحرّر الذاتي من زيف "الأصنام الذهنية" والسياسية.

لا يمكن في ضوء تلك المؤشّرات السوسيوثقافية انتظار نجاح "نهضة" أو تنمية أو ثورة. إذ هي مؤشّرات تتناقض كلّيًا مع منطق الدولة الحديثة وقابليتها للاستقرار والاستمرار وضمان الحرّيات الجماعية والفردية. لذا فإنّ الحاجة إلى "تحصين الذات" لا يمكن أن تتمّ إلا في نطاق تكريس الوعي التاريخي القادر على التخلّص من ثقافة الإنكار وتذويبها ضمن براديغم الاعتراف والحقّانية بديلًا لـ"براديغم الطاعة" عسى أن ييسّر ذلك تحرير الوعي والطاقات من مختلف الإكراهات الداخلية والخارجية.

ثقافة الإنكار تشكّل مهادًا للقابلية للاستعمار الجديد

ولئن كان مستقبل العالم العربي يتوقّف أساسًا على حسن توظيفه للثروات الطاقية والمنجمية وبقية المواد البشرية حسب خبراء المقاربة الاقتصادية، فإنّ ذلك التحوّل في السياسات العامة سواء أكانت اقتصادية أم ثقافية لا يمكن أن يحدث دون تحوّلات جذرية في مستوى البنى الذهنية والنفسية العميقة المولدة لتلك السياسات وفي مقدّمتها ما اصطلحنا على تسميته بثقافة الإنكار والإصرار على تكرار الأخطاء نفسها. وهذا لا ينفي إطلاقًا دور العوامل الخارجية في مقدّمتها مطامح قوى الهيمنة الدولية، وإنّما يتكامل معها باعتبار أنّ ثقافة الإنكار تشكّل مهادًا للقابلية للاستعمار الجديد. فلولا ذلك لما وجدت مخطّطات الإنهاك الحضاري والاستنزاف وتأبيد التبعية أرضية خصبة لنجاحها النموذجي بالمنطقة العربية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن