بصمات

الأيديولوجيا والدّولة التي يريدها لنا الغرب

من الغلط الاعتقاد بأنّ الأيديولوجية في العالم المعاصر، الذّي تميّزه ثورات تكنولوجيا وسائل الإعلام والبيولوجيا، قد أصبحت لاغية متجاوزة نظرًا لتفوّق العقل العلمي والتّقني وتخطّيه للمواقف المسبقة التي هي من قبيل الأيديولوجيا. فساد الاعتقاد بموتها واعتبارها من الخيال النّظري كمّا نظّر له مُفَكِّرو الليبيرالية بمختلف توجّهاتها.

الأيديولوجيا والدّولة التي يريدها لنا الغرب

تقوّت هذه الدعوى، أكثر، في نهاية القرن العشرين الذي بدأت فيه المشاريع الكبرى للإمبريالية المتوحّشة في التوطّن والتوسّع بالقوّة بكلّ أشكالها عبر مختلف بلدان العالم. وللتّغطية على أفعالها روّجت عبر مفكّرّيها أنّ البشرية قد استنفدت كلّ مراحل تطوّرها الفكري والسّياسي إيذانًا بنهاية النزعات الأيديولوجية الكبرى مع الدّعاية للديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان كحلّ وحيد للأزمات السياسية والاقتصادية والحقوقية.

فكرة الدّولة في البلاد العربية بما تعنيه من مؤسّسات غير ديمقراطية وقوانين مُتحكّم فيها تُليّـن الفرد ليقبل الواقع

منذ الحرب ضد الفيتنام والخليج والصومال وغزو العراق وأفغانستان إلى الحرب الروسية الأوكرانية والحرب على غزّة، لم تشأ الآلة النيوليبرالية أن تُشكّل هذه الحروب تراكمات متطوّرة تقود إلى وعي تاريخي وسياسي لدى شعوب هذه الدّول، حتّى تخلق معها ومع مزاعمها المسافات أو القطائع التّي تخشاها وتضرب مصالحها. لأن حدوث هذا الوعي الذي ظلّ غائبًا، إجمالًا، في البلاد العربيّة، يعزّز إرادة الفعل الجماعي والمقاومة الشاملة، ويجعل من الأيديولوجيا خلفية لتشكيل التاريخ الخاص للأمّة، غير التّاريخ الذي تريده لها الليبرالية.

من هنا ندرك أسباب دعم الليبرالية لما يسمّى بنهاية التّاريخ وموت الأيديولوجيا. لكن المفارقة العجيبة، أنّ كلّ دعواها ومشاريعها في توطيد التحكّم في العالم وفي منطقة الشّرق الأوسط بخاصة، قائمة على أساس أيديولوجي صرف يميّزه تحيّز مُضَخَّم لعقيدة الغرب أساسه مِحْوَريّة الرّجل الأبيض والعقيدة المسيحية اليهودية. إنّ سعيها الحثيث إلى بناء منظومة فكرية تقوم على مَحْو الأيديولوجيا وقتل السيّاسة في هذه البلدان، يهدف إلى إفراغ هذه الأخيرة من محتواها التاريخي والسيّاسي والثّقافي والوطني حتّى يسهل عليها إلغاء الأسس المشتركة الموحّدة للثّقافات وتَهْشِيش سُمْكُ الهويّة الجامعة. الغرض من ذلك، أن تكون قادرة في اللّحظة التّي تقتضيه مصالحها على تفتيت مجتمعات تلك البلدان وتقويض دولها الوطنية عن طريق إشعال فتيل النزاعات العرقية والدّينيّة. وكلّما تعذّر عليها ذلك، لجأت إلى الحروب مع تسويغها بتقديم مبرّرات لشعوبها وللعالم. لا تخلو هذه المبرّرات من أن تكون أيديولوجية منتحلة لأخلاق الدّفاع عن المصلحة العامة.

ما يخيف الغرب وإسرائيل أن تترسّخ في ذهن الفرد العربي فكرة الوطن كانتماء وهويّة وعقيدة

إنّ أشدّ ما بات يخيفها أن تجتمع فكرة الوطن والعقيدة في المجتمعات العربية، فيتحوّل الفرد فيها إلى مواطن مقاوم بمرجعية أيديولوجية موجّهة لرؤيته للغرب وللعالم. لا يهمّها أن تترسّخ فيه فكرة الدّولة باعتبارها منظومة سياسية يحكمها رجال من صنعها أو إرادتها، لأن فكرة الدّولة في البلاد العربية بما تعنيه من مؤسّسات غير ديمقراطية وقوانين مُتحكّم فيها، تُليّـن بالتدريج الفرد ليذوب من داخلها فيقبل أمر الواقع أو يتماهى مع أدوارها. لذلك نلفيها تتحايل على فكرة الدّولة الوطنيّة عبر أجهزتها الأيديولوجية لتجعل من هذه الدّولة ليس فرصة للتعايش والسّيادة الدّاخلية والتّنمية، وإنّما مجالًا رمزيًا وواقعيًا للحفاظ على المنظومة السّياسية القائمة على الولاء للغرب وإسرائيل وتثبيت مصالحهما في المنطقة.

ما يخيف الغرب وإسرائيل أن تترسّخ في ذهن الفرد العربي فكرة الوطن كانتماء وهويّة وعقيدة، بديلًا عن فكرة الدّولة بالمعنى الذّي يسعى الغرب إلى ترسيخه وجعله مسلّمة مطلقة لدى النّخب العربية، ومن ثمّة مجتمعاتها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن