هكذا كان - ولا يزال - صدى جوائز نوبل في العلوم والاقتصاد في فضاءاتنا العلمية والإعلامية؛ مجرد خبر صحفي سنوي عابر.
وإن دلت ملاحظتنا على شيء، إنما تدل على ضآلة ما يمثله التقدم العلمي من قيمة ومكانة وأثر في ثقافتنا العربية المعاصرة التي تتناقض كليًا وجذريًا مع البلدان التي دأبت على الحصول على نوبل سواء من دول الشمال المتقدم، والنجوم البازغة والناهضة بقوة من دول الجنوب العالمي خاصة في مجالي العلوم والاقتصاد. كذلك تباعد المسافة - وإن شئنا الدقة الفجوة التي باتت مستدامة - بين سياقنا العلمي العربي وسياق "النوبليين"؛ حيث يعكس هذا التباعد بين السياقين إلى أي حد بلغت الفجوة المعرفية بيننا وبينهم.
منظومة التقدم تقوم على التشبيك بين حقول المعرفة المختلفة بما يحقق صالح المواطن ويؤمن مواطنية حقة
يبدو أننا لم ندرك بعد حقيقة أنّ منظومة "المعرفة - العلم - التكنولوجيا - الثقافة"؛ تعد قاطرة التنمية والتقدم في عالم اليوم. فلا تقدم أو تنمية مستدامة دون الأخذ بتلك المنظومة المركّبة بعناصرها الأربعة. كما لم نفهم أنّ العالم "النوبلي" قد تجاوز بمراحل، ما كان يطلق عليه التطور الخطي الذي عرفه العالم في الماضي. فنحن اليوم نعيش ما يمكن أن نطلق عليه "زمن التطور المركّب"؛ الذي يأخذ في الاعتبار أنه لا تقدم تقني ما لم يرتبط بواقع المجتمع وحياة المواطنين. كذلك لا تقدم تقني واجتماعي ما لم يحدث التفاعل الديناميكي بينهما من أجل التأسيس لمشروع مستقبلي حضاري جديد انطلاقًا من روح الشعوب وأفضل مقوماتها التي تم اختبارها تاريخيًا.
بلغة أخرى، تقوم منظومة التقدم على الربط والتشبيك بين حقول المعرفة المختلفة بما يحقق صالح المواطن في النهاية ويؤمن مواطنية حقة. أو ما أشرنا له، مرّة في هذه المنصة من خلال مقالنا "التعليم".. بين إبداع المواطنة وصناعة التفاوت، ما يعني ضرورة مراجعة نظامنا التعليمي في كل مراحله.
في هذا الإطار، ننطلق من قاعدة أخذ بها الشمال المتقدم والجنوب العالمي الناهض تقول بأنه لم يعد هناك مجال للتقسيم التعسفي بين حقول المعرفة التي دأبنا على الأخذ به - ولم نزل - غير مدركين أنه أحد بقايا تراث النظام التعليمي الذي أسّسه الاستعمار التاريخي في بلادنا إذ أراد لمواطنيها أن يتخرّجوا وفق سياساته لخدمة تَقدّمه لا وفق تَقدّمنا. كذلك الحد من الاجتراء على إقامة الحواجز الممتدة - طولًا وعرضًا - بين الحقول المعرفية المختلفة، أو بلغة أخرى شطر العلوم والمعارف وتصنيفها إلى "علمي وأدبي ورياضة"، بحيث لا تلتقي العلوم التطبيقية بالعلوم الإنسانية - حسب التصنيف الشائع -، أي لا يلتقي المنطق بالرياضة، ولا الفلسفة بالمنهج العلمي المطلوب في دراسة العلوم عمومًا والعلوم التطبيقية خصوصًا، ولا الاحتمالات ومدى أهميتها في تطوير الأذهان والأفهام. كما يتم إسقاط التاريخ والجغرافيا وضرورة الربط بينهما من أجل إدراك التطور الحضاري (العلمي، والفكري، والثقافي، والفني، والاجتماعي، والمدني، والسياسي، والاقتصادي) للأمم، والأوطان.
تكشف الحوارات البينية بين علماء نوبل أنه لا يوجد علم محض منفصل عن الواقع وتفاعلاته
تجدر الإشارة، في هذا المقام، إلى الحوارات التي تجمع الفائزين بنوبل، بخاصة في مجال العلوم والتي تستضيفها مدينة "لينداو" على ضفاف بحيرة "بودنزيه" التي تحتل مساحة شاسعة بين ألمانيا والنمسا وسويسرا سنويًا منذ العام 1951 تحت اسم "ملتقى علماء نوبل السنوي"؛ حيث تكشف الحوارات، عن جوهر العلماء الحقيقيين من حيث كيف يضعون المصلحة العليا للإنسان/المواطن المعاصر في أول سلّم اهتماماتهم. إذ وهم يعملون في مجال تخصصهم الضيّق - هكذا يبدون للوهلة الأولى - نجدهم منشغلين بالقضايا الكبرى للبشرية، واضعين نصب عيونهم؛ الإنسان والمجتمع والعالم. كما تكشف الحوارات البينية بين علماء نوبل أنه لا يوجد علم محض منفصل عن الواقع وتفاعلاته، كما لا يوجد حقل معرفي يمكن أن يعمل في عالم اليوم بمعزل عن باقي الحقول المعرفية. وأخيرًا العالم الحقيقي هو من تحكمه فلسفة علمية توجه عمله وتجاربه تأخذ في الاعتبار التاريخ الإنساني والتقني بكل دورات صعوده وهبوطه، والمجتمع بتحولاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية بانتصاراته وانتكاساته من أجل تأمين مسارات مستقبلية أفضل للكوكب ومواطنيه.
ومن الأهمية بمكان لفت النظر إلى النموذج الهندي في تطوير التعليم وجعل كامل مساحة الأرض الهندية موضعًا لـ"حزمة/منظومة" المعرفة والعلم والتكنولوجيا والثقافة؛ حيث قامت هذه الحزمة على إطلاق، ما بات يُعرف في الأدبيات التي درست التجربة الهندية، "الطاقة التساؤلية" العابرة للحقول المعرفية والتي هي تتناقض، يقينًا، مع ثقافة الإجابات الجاهزة عبر المذكرات و"السناتر"، والتعليم الذي فرضته الليبرالية الجديدة الذي يعنى - فقط - بتكوين فرد منبت الصلة عن التاريخ، والتحليل الاجتماعي، والتفكير النقدي، والابتكار التقني والعلمي، فرد يعمل كخبير موظف لصالح التراكم المالي للقلة على حساب الأغلبية، ولا يكون معنيًا بكارثية اللامساواة التاريخية غير المسبوقة بين البشر، ولا ما يتعرّض له الكوكب من انتهاكات.
(خاص "عروبة 22")