على مر العقود، أظهرت التجارب الاقتصادية المختلفة في أوروبا والعالم العربي، بما في ذلك تجربتا الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، مدى أهمية التكامل الاقتصادي في تحقيق تنمية مستدامة وتعاون اقتصادي فاعل. وفي هذا السياق، يمكن مقارنة التكامل الاقتصادي بين الدول العربية والدول الأوروبية مع تسليط الضوء على دور مجلس التعاون الخليجي كأحد النماذج العربية التي تسعى بنجاح إلى تحقيق تكامل اقتصادي في منطقتها.
التعاون الاقتصادي العربي أمر مُلح ليس فقط لتعزيز النمو الاقتصادي بل أيضًا لمواجهة التحديات الوجودية
تُعتبَر الدول العربية، منذ سنوات طويلة، من أقل المناطق في العالم تكاملًا اقتصاديًا. فالتحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجه المنطقة تمنع معظم الدول العربية من الوصول إلى مستوى عالٍ من التعاون والتكامل الاقتصادي. كذلك تجعل النزاعات السياسية والأزمات الاقتصادية بين الدول العربية، وداخل كل منها، من الصعب على هذه الدول بناء هياكل اقتصادية متكاملة أو حتى توقيع اتفاقيات بعيدة الأجل تستهدف تحقيق التكامل الاقتصادي. ومع ذلك، يظل التعاون الاقتصادي العربي أمرًا مُلحًا، ليس فقط لتعزيز النمو الاقتصادي، بل أيضًا لمواجهة التحديات الوجودية التي تواجه المنطقة، مثل شح الموارد المائية والغذائية والنزاعات المسلحة، إلى جانب سياسات الدول غير العربية القريبة منها والبعيدة.
وهكذا من الواضح أنّ العالم العربي بحاجة إلى اعتماد سياسات تكاملية جديدة تتعامل مع هذه التحديات في شكل مباشر.
يُظهِر الاتحاد الأوروبي نموذجًا مختلفًا تمامًا في مجال التكامل الاقتصادي. ففي حين تواجه الدول العربية صعوبات كبيرة في تعزيز التعاون، استطاعت الدول الأوروبية بناء واحدة من أنجح تجارب التكامل الاقتصادي على مستوى العالم. إنّ الاتحاد الأوروبي عبارة عن مشروع اقتصادي وسياسي متكامل نشأ بعد الحرب العالمية الثانية بهدف تعزيز التعاون بين الدول الأوروبية ومنع تكرار الحروب التي خاضتها دول القارة الأوروبية في مواجهة بعضها بعضًا لقرون من الزمن. ولم يشمل هذا التكامل الاقتصادي فقط تحرير التجارة بين الدول الأعضاء، بل أيضًا توحيد السياسات النقدية والمالية والجمركية وحتى السياسات المنظّمة لتنقل الأفراد ناهيك عن التأشيرات الموحّدة والاتفاقيات الدفاعية والأمنية.
والاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة، يُعَد أحد أكبر التجمعات الاقتصادية في العالم، إذ يمثّل حوالى 16.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتستفيد الدول الأعضاء في الاتحاد من سوق موحّدة تتيح تدفق البضائع والخدمات بحُرية، إلى جانب تنقّل مواطني الدول الأعضاء من دون عوائق، ما يؤدي إلى تحسين مستوى المعيشة وخلق فرص عمل جديدة. وتمنح دول الاتحاد المشاركة في سياسات التأشيرات الموحّدة المقيمين والزائرين الآتين من دول خارج الاتحاد الوصول إلى مزايا كثيرة، أهمها حرية التنقل والإقامة، كل بحسب شروط تأشيرته.
أصبحت العلاقات الاقتصادية القوية ذات المزايا المتبادلة محفزًا لحل النزاعات السياسية
تجربة الاتحاد الأوروبي تُعَد نموذجًا متقدّمًا في التكامل الاقتصادي. فقد تمكن الاتحاد من توحيد السياسات النقدية بين العديد من دوله من خلال استخدام عملة موحّدة، وهي اليورو، التي باتت اليوم واحدة من أهم العملات على مستوى العالم. هذا التكامل النقدي أتاح للدول الأعضاء تعزيز الاستقرار المالي، وخفض تكاليف المعاملات الاقتصادية، وزيادة الشفافية الاقتصادية. إضافة إلى ذلك، ساهم الاتحاد الأوروبي في تعزيز التكامل السياسي بين الدول الأعضاء، إذ أصبحت العلاقات الاقتصادية القوية ذات المزايا المتبادلة محفزًا لحل النزاعات السياسية بطرق سلمية. ومع ذلك، لا تخلو هذه التجربة من تحديات، فقد شكل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) الذي دخل حيّز التنفيذ في الأول من شباط (فبراير) 2020 اختبارًا لقدرة الاتحاد على الحفاظ على تماسكه في وجه الأزمات السياسية ولا يزال هذا التماسك قائمًا على رغم تقدّم أحزاب يمينية متطرّفة تشكك فيه في الانتخابات الوطنية والأوروبية.
أما أزمة اليورو (2010-2012) التي نشأت نتيجة تفاقم عبء الديون السيادية التي واجهتها دول في منطقة اليورو، ولا سيما اليونان، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، فبدأت عندما تبيّن أنّ اليونان تعاني من ديون كبيرة وصعوبة في تسديدها، بعد تفاقم أزمة الائتمان العالمية التي بدأت عام 2008 إثر انهيار سوق الرهن العقاري العالي المخاطر في الولايات المتحدة. وفي دليل على مزايا التكامل الاقتصادي، سارع الاتحاد الأوروبي والمصرف المركزي الأوروبي على اتخاذ إجراءات طارئة، بما في ذلك برامج إنقاذ مالية وقروض ضخمة لدعم الدول المتضررة، شارك في بعضها صندوق النقد الدولي، ما بدد المخاوف حول استدامة الوحدة النقدية الأوروبية.
(خاص "عروبة 22")