أما الفيلسوف هيجل، باسم المثالية الألمانية، فذهب بعيدًا إلى الربط بين الحرية والإنسانية. فالحرية هي حركة الروح على طريق الوعي بالذات، ومن دونها يتحوّل الإنسان إلى جسد محض، شيء يمكن استعماله، ما يحيله عبدًا يمكن امتلاكه.
ظل الإنسان العربي في نظر حكّامه محض رقيق وبقيت السلطات قادرة على أن تفعل به وفيه كل ما تريده
ومن ثم فسر هيجل مفارقة العبودية والسيادة في التاريخ الإنساني، فأرجعها إلى تلك اللحظة الفاصلة التي عجز فيها شخص ما عن مقارعة آخر أقوى منه، رفع السيف في وجهه، فاضطر إلى الخضوع له، فالعبودية للسيّد ليست سوى البديل عن الموت بالسيف، وهو اختيار ساد جل التاريخ الإنساني، حيث كان الوجود مجرد واقعة بيولوجية، قبل أن تولد حساسية جديدة تمنح للوجود جوهرًا سيكولوجيًا، فلا يكون الإنسان موجودًا ما لم يكن حرًا، الأمر الذي أفضى إلى ميلاد ثنائية حديثة طرفاها (الحرية - الموت)، بديلًا عن الثنائية الموروثة وطرفيها (الحرية - العبودية)، فالإنسان يموت ثقافيًا وحضاريًا إذا ما عجز عن تمثّل أنبل جواهره وهو إرادته الحرة المريدة.
في حضارتنا العربية العريقة، وفي مدنيتنا المفترضة. من زمن النهضة الأولى البعيدة، القابعة في مطلع الألفية الهجرية الأولى، إلى زمن النهضة الثانية القريبة القابعة على منحنى الطريق بين نهاية الألفية الميلادية الثانية، وبين مطلع الألفية الثالثة. ومن عهود الإمبراطوريات الكبرى إلى زمن الجمهوريات العتيدة، ظل الإنسان العربي في نظر حكّامه محض رقيق، شيء قابل للاستخدام والاستهلاك من قبل السلطان/الملك/الرئيس، وبقيت كل السلطات قادرة على أن تفعل به وفيه كل ما تريده من دون أن تشرح له، أن تحارب وتسالم، أن تمنح وتمنع من دون أن تشغل نفسها بإقناعه، طالما أنها قادرة على أن تبعث إلى السجون والمنافي بالأحرار والشرفاء من مواطنيها وكأنهم مجرمون أو أعداء، من دون أن يهتز لها جفن، لا لشيء إلا لأنهم اعتنقوا آراء مخالفة لم تستطع ضمائرهم الحية كتمانها، فيما يرتع على أرضها المحتكرون للسلع، والمتلاعبون بالأسعار، وأبواقهم الناعقة، التي تنطق بالفجور وتدافع عن الباطل، وغيرهم ممن يستحقون مقصلة السلطة وسندان القانون.
يستطيع الإنسان أن يكذب على الآخرين، يصدقونه أحيانًا أو يكذّبونه، وقد يكذب الآخرون عليه فيكشف كذبهم أو يضحكون عليه. والأمّة قد تكذب على غيرها فتنال مصلحة أو تحقق عائدًا، وقد تكذب عليها الأمم فتخسر هذا وتفقد تلك. يحدث هذا وذاك وتظل الحياة تدور، لكن هذه الحياة تصبح عبثًا قاتلًا إذا ما اعتاد الفرد أن يكذب على نفسه، خصوصًا إذا ما طال عليه الأمد ونسي أن يتذكر حقيقة أنه يكذب، فصار الكذب هو الحقيقة، فيما تصير الحقيقة إذا ما لاحت ولو مرة واحدة، هي الكذب. كما تصبح عبئًا ثقيلًا إذا ما اعتادت الأمّة أن تكذب على نفسها، خصوصًا إذا ما أمعنت في كذبها حتى صدّقت نفسها، وصار الكذب هو حقيقتها الكبرى التي تدور في فلكها.
لم يكن حصادنا المر من الهتاف سوى إرهاب لم ينل سوى من دمائنا وعمراننا فيما العدو يضحك ملء شدقيه
مثل هذه الأمّة قد ترى في الشقيق عدوًا هائلًا، مثلما ترى في العدو صديقًا ودودًا، وشريكًا جديدًا، تجلس على حجره بأمان، بعد أن عجزت عن مجابهته بشجاعة، قررت أن تقبّل يده، بعد أن عجزت عن الوصول إلى عنقه، رغم أنها طالما ادعت محاولة الزحف عليه من مناطق عدة، مرة انطلاقًا من بغداد عن طريق الكويت لا أدرى كيف؟، ومرة أخرى انطلاقًا من ميادين هتفت بأن الموت أسمى أمانيها، وأن رحلتها إلى القدس أغلى أحلامها، وأن شهداءها ولو وصولوا الملايين لن يمنعوها عن مواصلة الطريق الذي لم تسر عليه حقًا ولو خطوة واحدة، ولم يكن حصادنا المر من هتافها سوى إرهاب لم يقتل إلا أبناءنا ولم ينل سوى من دمائنا وعمراننا، بل من صورتنا كبشر، فيما العدو يجلس على الأريكة، في عزلته العظيمة، يضحك ملء شدقيه، حيث الكل يقاتل لأجله، والحرب تدور حوله وليس عليه، وحيث الجميع يطلبون وده باطنًا ولو ادعوا كراهيته ظاهرًا، وحيث رائحة الدم تفوح من كل مكان يتحرك فيه.
فاهنئي يا ابنة صهيون إلى حين يفيق العربي ويطلب الكرامة، ويصير العرب أمّة تطلب الحياة.
(خاص "عروبة 22")