ليس هناك أكثر من الأحاديث والمقترحات المتعلقة بمفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، وفي جميع الجولات يتم الاعلان عن قرب التوصل لصفقة تعطي فرصة لهدنة قصيرة أو طويلة، ولكن مع كل جولة جديدة لا يحدث شيء وتعود الأمور إلى المربع رقم واحد، ويظل الطرفان المتصارعان على موقفيهما دون تغيير، وكأن العملية التفاوضية تدور في حلقة مفرغة، وبالتالي تستمر الحرب، وهو ما ينطبق على جولة القاهرة الأخيرة والتي ستعقبها جولة أخرى في الدوحة، والمرجح أنها بدورها لن تفضي إلى حل ما دام التعنت في المواقف مستمرا، فأي مفاوضات لن تنجح إلا من خلال الحلول الوسط وتقديم تنازلات من طرفيها المباشرين مهما بلغت درجة الوساطة، وهي دائما العنصر الغائب في تلك المفاوضات، فلا إسرائيل تراجعت عن أي من أهدافها المعلنة، ولا "حماس" رضيت بأن تدخل لعبة السياسة والدبلوماسية بقواعدهما المعروفة.
لذا وبسبب هذا التعثر، فإن جبهات القتال تتسع، إذ لم تعد مقصورة على القطاع والجبهات الإقليمية من لبنان حيث المواجهة مع "حزب الله" إلى الحوثيين باليمن، وإنما امتدت إلى الضفة الغربية، وهي الأخطر لأنها قد تعيد القضية الفلسطينية إلى ما قبل أوسلو إذا ما خرجت المواجهات الحالية عن السيطرة في لحظة ما، بعد أن قام الجيش الاسرائيلي بعملية عسكرية واسعة شملت العديد من مدنها وبلداتها ومخيماتها، إضافة إلى تصريح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بضرورة "ضم الضفة إلى أهداف الحرب"، وهو المعنى ذاته الذي أكده وزير الخارجية يسرائيل كاتس في تغريدة له على موقع "إكس" بالتزامن مع بدء العملية بقوله "إنه يجب التعامل مع التهديد الآتي من الضفة الغربية تماما كما يتم التعامل مع قطاع غزة، للقضاء على البنى التحتية للشبكات والمنظمات الإرهابية".
والواضح أن إسرائيل باتت تتحرك بحرية أكبر، ولا تكترث حقيقة بالمفاوضات إلا لكسب الوقت، حتى إن إعادة الرهائن لم تعد أولوية، لأنها تريد تغيير الواقع على الأرض ولديها الآلة العسكرية الضخمة التي تساعدها على تحقيق مخططاتها بعيدة المدى، ولذلك أصبحت مستعدة لخوض حرب طويلة بعكس إستراتيجيتها السابقة التي كانت تعتمد على الحروب القصيرة أو الخاطفة.
من هنا وبعد مضى ما يزيد على الشهور العشرة على اجتياح غزة، وعقد العديد من المباحثات التفاوضية، مازال رئيس وزرائها نيتانياهو يردد نفس ما قاله عن أهدافه الأساسية من الحرب، وهي تدمير القدرات العسكرية والمؤسسية والإدارية لـ"حماس"، والتأكد من عدم عودتها لحكم غزة، وإيجاد إدارة بديلة للقطاع تحت السيطرة الإسرائيلية، وفي هذا السياق ظهرت مسألة محور صلاح الدين "فيلادلفيا"، وجعلها تتصدر المشهد كمطلب جوهري في المرحلة الأولى من المفاوضات، إن نجحت ستعقبها مرحلتان أخريان وصولاً إلى اتفاق شامل لوضع نهاية للعمليات القتالية، وبرر ذلك بأن الوجود في هذا المحور أمر ضروري لضمان عدم قدرة "حماس" على إعادة تسليح نفسها بذريعة تهريب الأسلحة عبره، رغم أن مصر أنشأت منذ سنوات منطقة عازلة على حدودها مع غزة ما ينفي هذه المزاعم.
ووفق ما أوردته صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" على لسان وزير الشئون الإستراتيجية الذي يشغل أيضا منصب مساعد نيتانياهو، رون ديرمر، فقد أشار إلى أن بلاده "لن تنسحب من هذا الممر في أي اتفاق لوقف اطلاق النار مع "حماس" فى هذه المرحلة حتى تتوصل إلى حل عملي على الأرض يمكن أن يقنع حكومتها بأن ما حدث في 7 أكتوبر لن يتكرر "ولكنه عاد وقال" إنها ستترك الباب مفتوحا لانسحاب كامل في مرحلة تفاوضية ثانية في المستقبل، لأن هذا المطلب ليس ثابتاً، وربما تكون هناك ترتيبات أمنية بديلة في إطار وقف لإطلاق النار طويل الأمد"، وهو ما يؤكد أن "حماس" هي الهدف، وأن المناورات الدبلوماسية حول المحور تصب في هذا الاتجاه.
أما عن الضغوط الأمريكية عليها، فهي محل جدل، فالإدارة الحالية تبدو في أضعف حالاتها لانشغالها بالانتخابات الرئاسية، صحيح أن الرئيس بايدن يبدو متحمسا لعمل إنجاز يُحسب له بعد تركه منصبه، وأن إدارته تسعى لإتمام هذه المهمة وعقد صفقة للإفراج عن الرهائن، وبالأخص بعد مقتل مواطن أمريكي ضمن الستة الذين لقوا مصرعهم مؤخراً، إلا أنه في النهاية لم يمارس ضغطاً فعلياً عليها ولا قلل من دعمه لها، فهو يقاسمها نفس الرؤى في نقاط عدة، وتحديداً فيما يتعلق بـ"حماس"، يدلل على ذلك ما صرح به المتحدث باسم وزارة خارجيته ماثيو ميلر، من أن "الولايات المتحدة لا تدعو إسرائيل ولم تدعُها أبدا طوال مفاوضات وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن إلى التخلى عن مقتضيات أمنها والدفاع عن نفسها، وأن التزامها بهذا الأمر لا يمكن المساس به، بل وتعتقد أن من مصلحة الاسرائيليين والفلسطينيين معا ألا تتمكن "حماس" من تهريب الأسلحة عبر ممر فيلادلفيا" ورغم ذلك أشار إلى معارضة واشنطن "الوجود طويل الأمد فيه وفي غزة أيضا" لذلك ستتقدم بمقترح جديد، لكنه لم يقل أنه سيكون نهائياً، بل أكد أن واشنطن ستتعامل مع الوضع القائم يوماً بيوم وخطوة بخطوة.
في المقابل، فإن على "حماس" مراجعة بعض مواقفها، فلا يمكن تحقيق جميع مطالبها دفعة واحدة، خاصة بعد تدمير أغلب قدراتها العسكرية واغتيال عدد من كبار قادتها، فضلا عن الدمار الذي لحق بقطاع غزة، كما أن الحل لن يكون في العودة إلى العمليات الانتحارية مثلما دعا رئيس الحركة بالخارج خالد مشعل، في كلمته خلال مؤتمر "عين على الأقصى" السنوي باسطنبول، والتي طالب فيها بأن "يشارك في هذه العمليات فلسطينيو الداخل والخارج وفى الشتات" لأن هذا النهج سبق وأدى إلى إدراجها على قوائم الإرهاب، ولن يجد قبولاً دولياً وعربياً، ومن ثم سيزيد الأمور تعقيداً، أو أياً كانت المبررات، فمن شأنه أن يوجه ضربة قاصمة لعدالة القضية الفلسطينية.
(الأهرام المصرية)