بصمات

ضرورة الثقافة الحدَثِيَّة

حان الوقتُ لفهم الحدث بما هو فعلٌ مستجِدٌّ في الواقع، وليس بما هو ما صدَقَ لأقوالٍ واعتقادات وتنبؤات من زمنٍ آخر. وكأن كل ما يمكن أن يجري في بلادنا مقدَّرٌ لنا أن نعيشه أو معروفٌ مسبقًا أنه سيجري! المسألة ليست بهذه البساطة، ذلك أن ثقافةً من هذا النوع يبدو أنها تحكم وجهة نظر الفاعلين في هذه الحوادث العظيمة اليوم.

ضرورة الثقافة الحدَثِيَّة

إن ما يجري في هذا الصدد هو تعطيلُ المبادرة في عيش الحدث بما هو فعلٌ حاضر يتطلَّب وعيًا معاصرًا فاهمًا لكل ظروف العيش الراهن. هذا الوعي الذي لا ينجمُ إلا في ذهن المفكّر المثقَّف، الذي يراقب ما يعيشه لأنه مشارِكٌ في صنعه اجتماعيًّا، فهو جزء من الأزمة القائمة، لذلك يعوَّل عليه في اجتراح الحلول الاستراتيجية للإشكالات الظرفية.

المثقَّف المفقود اليوم هو هذا الإنسان الذي لا يستقطِبُ ذاتَه في وجه أي فئة اجتماعية، بل هو يحاول أن يعاين تفاصيل الحياة اليومية كل الوقت. إنّ وعيَ اليومي هو الذي ينتج المعنى الحقيقي للوجود الحضاري المرئي، أي هذا المشهد الحضاري الذي يفرض نفسه بين الثقافات الكبرى.

ليس أجدى من أن يكون المثقف صلة الوصل بين الناس والحدث

لا يمكن للمحلي تجاوُز العولمة، لذا إنّ الجدارة في العيش تكون في الاشتراك الفاعل بما هو عالمي. وإذا كان هناك من اعتراض على ثقافةٍ منتشرة تتنافى مع الخلق العام، فحريٌّ بالمثقفين التسويغ العلمي والعقلاني لخطابٍ يؤسس لعلاقة متينة بين الحقوق العامة والقيم العامة وما يقابلها من سلوكات الأفراد. فحقوق الإنسان مثلًا، مجالٌ لا بدَّ من الاشتغال فيه بفاعلية كبرى تفتح الباب لكل فرد في المجتمع بأن يتفاعل مع حقوقه استنادًا إلى فهمه لطريقة التعبير عن الحق التي تحكم اليوم.

إنّ فاعلية الفرد لا يمكن أن تأتي إلى مجتمع بقيم من خارج المجتمع، فالمألوف هو المجال الحقيقي لتجاوز المألوف، أي من خلال فهمه يمكن إبداع ما هو ضروري للتجديد والتطوير نحو الأفضل. ولا بد من العناية بإشراك المجتمع كله في مشاريع تمنع إبقاء فئة أو فرد على هامش الحراك الاجتماعي الكلي، بمعنى أنّ على هيئات المجتمع المدني وكل مشاريع التنمية الثقافية المجتمعية أن تطاول كل فئات المجتمع، بحيث لا تنزوي فئة بنفسها لتبني تصورها الأحادي عن المجتمع، فتصبح ناقمةً على ما يجري من دونها، أو تبقى كل الوقت تشعر وكأنها مستثناة من الاهتمام المجتمعي الشامل.

يقول محمود أمين العالم: "الثقافة كتعبير فكري أو أدبي أو فني أو كطريقة خاصة للحياة، إنما هي في الحقيقة انعكاس للعمل الاجتماعي الذي يبذله شعب من الشعوب بكافة فئاته وطوائفه، ومظهر لما يتضمنه هذا العمل الاجتماعي من علاقات متشابكة، وجهود مبذولة، واتجاهات. فالأساس الذي تقوم عليه الثقافة إذن، ليس شيئًا جامدًا، أو عقيدة محددة، وإنما هو عملية لها عناصرها المتفاعلة، واتجاهها المتطور" (عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، في الثقافة المصرية، دار الثقافة الجديدة، ط3، مصر، 1989، ص 25-26).

إن متانة هذا القول تكمن في وعي ضرورة العمل الاجتماعي، بما هو طريقة لضبط سيرورة الاشتراك في الفاعلية والتأثير. ويجب ألا ننسى أنّ الهدف من العمل هو التعبير، أي إبداع المفاهيم الجديدة المتطورة في فهم الحياة بالفن والأدب والفكر وكل مجالات الإنتاج الثقافي الواقعي. لذا، ليس أجدى من أن يكون المثقف هو صلة الوصل بين الناس والحدث من خلال ابتكار العبارة التي تمنع الخروج من زمان الحدث إلى زمان التصورات المفارقة له، لما في ذلك من خطورة على الاستهانة بالحياة في سبيل أفكارٍ غير قابلة للحياة.

التفاعل الحدثي يجمع الطاقات الفاعلة في المجتمع على الاشتراك الحر في صوغ منظومةٍ تجديدية رائدة للتجربة الحية

من الأهمية بمكانٍ بناء الموقف الحَدَثي أيضًا، وهو ما يتطلب الجُرأة على مخالفة رأي السابقين أو الخبراء أو مخازن المعلومات، وهذا ليسَ من باب الهَوَج والعشوائية في التصرف وإدارة الأمور، بل من باب المعاصرة ومواكبة السيرورة التقنية لثقافة العصر. فهل يُعقَل أن يلتزِمَ الفردُ خبرةَ من سبقوه بحجة أنها كانت أكثر صلابةً ورصانةً في تحقيق أهداف التحديث، وأن من يخالف هذه الخبرة يكون قد تنازلَ عن المبدئية في تحقيق هذه الأهداف السامية؟.

إنّ أي إطارٍ للعمل الاجتماعي التحديثي لا يصلح تكراره، ذلك أنّ الحدثَ لا يمكن إلا أن يحوي عناصر جديدة للفعل، لذا من الجدارة أن نتفاعل مع الجديد على حساب القديم، وهنا تكمن البراعة في تثقيف أغصان التجربة مما لا يلزمها من عناصر غير ضرورية، وإبقاء ما هو ضروري بحسب الواقع. هذا النمط من التفاعل الحدثي هو الذي يجمع الطاقات الفاعلة في المجتمع على الاشتراك الحر في صوغ منظومةٍ تجديدية رائدة للتجربة الحية، بدل الالتزام القسري على رأيٍ واحد يخدم فكرةً أو عقيدةً أو مسلّمةً أولى تسبق أي تجربة.

من هنا نرى أنه لا مجال للعبة الفكر أن تتم بلا تجربة تلزمُ المفكِّرَ نفسه بتحديد طريقة تفكيره في الحياة الراهنة، بحيث يكون صادقًا في التعبير عما هو فيه، فلا يتطرَّفُ ولا يشِذُّ، بل يتفرَّدُ ويبتكر ويبدع. وما الهُويَّة الهنيئة إلا التي ينتجها صاحبُها انسجامًا مع وجوده المنتج في المجتمع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن