تقدير موقف

"معاداة السامية".. توظيف ما لا بد من توظيفه (2/3)

حرص الصهاينة على ترسيخ مقولة "الاضطهاد الأبدي" وإبراز أنهم كانوا الضحية الوحيدة للنازيين في أوروبا وللعرب في الشرق، وهي النغمة التي ما زالوا يعزفونها حتى الآن، على رغم افتضاح المبالغة وتزييف الحقائق فيها.

نجحت الصهيونية في ابتداع مفهوم "معاداة السامية"، وبدأت توظفه لتحقيق مصالحها، ولإسكات الأصوات المنتقدة لسياساتهم، والداعمة للحقوق الفلسطينية، ونجحت في جعل معاداة السامية سيفًا مسلطًا على رقاب من يتجرأ بنقد اليهود.

وفي عام 1990 أصدرت فرنسا قانون "جيسو" الذي يجرم مجرد مناقشة حقيقة وقوع "الهولوكوست". كما أصدرت النمسا في عام 1992 قانونًا يعاقب كل من ينكر أو يقلل من جرائم النازية سواء بالكلمة المكتوبة أو المذاعة. وفي عام 1994 وضع البرلمان الألماني قانونًا يجرم أي محاولة لإنكار وقوع "الهولوكوست"، ويوقع على مرتكب هذه الجريمة عقوبة قدرها السجن خمس سنوات بصرف النظر عما إذا كان المتحدث يؤمن بما ينكره أم لا.

التحالف الدولي لإحياء ذكرى "الهولوكوست" (IHRA)

نجحت الصهيونية في تكوين "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)" في عام 1998، حيث أطلق رئيس الوزراء السويدي جوران بيرسون فريق عمل للتعاون الدولي بشأن التوعية بـ"الهولوكوست" وإحياء ذكراها والبحث فيها، وفي العام نفسه انضمت كل من ألمانيا وإسرائيل إلى المبادرة، وتبعتها في عام 1999 هولندا وبولندا وفرنسا وإيطاليا، وفي عام 2000 عُقد منتدى ستوكهولم الدولي، وشارك فيه ممثلو 46 حكومة، ونتج عنه "إعلان ستوكهولم"، وقد دعا إلى تعزيز جهود إحياء ذكرى "الهولوكوست" وتعليمها وتذكرها و"إثبات الحقيقة الموجعة لـ"الهولوكوست" ومعاقبة كل من يعادي اليهود".  

"قانون معاداة السامية" مخالف لقواعد القانون الدولي ويتنافى مع مبدأ المساواة ورفض التمييز العنصري

وبناءً على توصيات التحالف الدولي لإحياء ذكرى "الهولوكوست"، وقّع الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن عام 2004 على مشروع قانون يلزم وزارة الخارجية برصد وإحصاء الأعمال المعادية للسامية في العالم وتقويم مواقف الدول من هذه الأعمال. وينص القانون على ضرورة استمرار الولايات المتحدة في جهودها لمحاربة عداء السامية في العالم.

تم التطبيق الفعلي للقانون بصورة فجة، وبناءً عليه تعرّضت عدة شخصيات فكرية وسياسية وأكاديمية وفنية لتهمة معاداة الصهيونية، فقد تعرّض الممثل الشهير ميل جيبسون لتهمة معاداة السامية بعد فيلم "آلام المسيح" عام 2004، الذي أدانته جماعات يهودية، مبيّنة أنه يسهم في إذكاء المشاعر المعادية للسامية، نتيجة لَوْم اليهود على "مقتل" السيد المسيح، وفرض اليهود حصارًا عليه، وتأثرت أعماله تأثرًا كبيرًا بعد إخراجه الفيلم.

وعندما تجرأ عمدة لندن كين ليفنجستون ونشر مقالًا عن "التطهير العرقي ضد الفلسطينيين"، ووصف أرييل شارون بأنه "مجرم حرب"؛ أصدرت لجنة قضائية عام 2006 أمرًا بوقفه عن عمله عدة أسابيع.

كما اتُّهِم لاعب كرة القدم المصري هاني رمزي بمعاداة السامية في ألمانيا وقت احترافه في صفوف "فيردر بريمن"، بعد أن قدَّم تحية "النازية" لطبيب الفريق، ووصلت إلى حد اتهام النادي بأنه يقيم حفلات نازية لولا تقديمه الاعتذار وأنها حركة غير مقصودة.

وفي 26 مايو 2016، قررت الجلسة العامة للتحالف الدولي لإحياء ذكرى "الهولوكوست" في بوخارست اعتماد التعريف العملي لمعاداة السامية، وهو أنّ: "معاداة السامية هي تصور معين لليهود، يمكن التعبير عنها على أنها كراهية لليهود"، وهذا القانون يستهدف معاقبة كل من يتعرض لليهود بدايةً من المظاهر الخطابية والشعارات الموجهة ضدهم، وتجريم كل من يتعرض لليهود في وسائل الإعلام، والمدارس، وأماكن العمل، وفي المجال الديني، وتجريم كل من يروّج أنّ اليهود أصحاب مؤامرة يهودية عالمية، أو الادعاء بسيطرة اليهود على وسائل الإعلام، أو الاقتصاد، أو الحكومات. وكذلك يعاقب كل من ينكر المحرقة اليهودية "الهولوكوست"، أو يتهم اليهود شعبًا أو إسرائيل دولةً باختراع "الهولوكوست" أو تضخيمه، كما يعاقب كل من ينكر حق الشعب اليهودي في تقرير المصير.

وأصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عام 2019 أمرًا تنفيذيًّا لمنع المساعدات عن الجامعات التي تسمح بـ"معاداة السامية". كما تعرضت عضو الكونجرس عن الحزب الديمقراطي إلهان عمر عام 2019 لانتقادات من قبل ترامب ورئيسة الكونجرس نانسي بيلوسي عن تصريحات أشارت فيها إلى أنّ المشرعين الأمريكيين يدعمون إسرائيل بسبب تمويل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC) لهم، واتهمت تصريحاتها بأنها "معادية للسامية" وتم مطالبتها بالاعتذار.

وكشف الرئيس جو بايدن النقاب عن إستراتيجية إدارته الجديدة لمكافحة "معاداة السامية"، لزيادة الوعي بمعاداة السامية خاصة في حرم الجامعات وعبر الإنترنت. وأكدت الإستراتيجية التزام الولايات المتحدة بحق دولة إسرائيل في الوجود، وشرعيتها، وأمنها ودعوة شركات التكنولوجيا لوضع سياسة تواجه خطاب الكراهية على منصاتها. وتضمّنت الإستراتيجية توجيهات لوزارة التعليم وللمدارس بضرورة تضمين تدريس "الهولوكوست" ضمن مناهجها.

وفي بريطانيا فرضت الحكومة على الجامعات تخفيضات في التمويل إذا لم تعتمد الاعتراف بـ"معاداة السامية" ضمن برامجها. كما علّق حزب العمال البريطاني عام 2020 عضوية جيرمي كوريين الرئيس السابق للحزب بسبب اتهامه بأنه لم يتخذ خطوات كافية لمواجهة "معاداة السامية" داخل الحزب أثناء رئاسته، ويُعرف كوربين بمواقفه المؤيدة للقضية الفلسطينية، وانتقاداته لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، وإدانته لجرائمه بحق الفلسطينيين.

وبمنطق القانون نفسه نجد أنّ "قانون معاداة السامية" يأتي مخالفًا للقواعد المستقرة في القانون الدولي والأعراف الدولية، فهو يتنافى مع مبدأ المساواة ورفض التمييز العنصري؛ فهو يميّز اليهودية عن باقي الأديان، وكذلك ينافي مبدأ حرية الفكر وحرية التعبير عن الرأي، لأنه يجرم كل من ينتقد دولة إسرائيل وممارساتها السياسية مهما كانت.

مصطلح معاداة السامية يضع بني إسرائيل في كفة والبشرية بكاملها في كفة

كما أنه يخالف الدستور الأمريكي نفسه، الذي ينص في مواده على ضرورة عدم وضع قيود على حرية الأفراد، وألا يكون هناك تمييز بين الأجناس، كما أنّ القانون الدولي لا يخول لأي دولة أن تصدر قانونًا يعطيها الصلاحيات لممارسة أعمال التتبع والملاحقة خارج أراضيها.

وهكذا نجد مصطلح معاداة السامية يضع بني إسرائيل في كفة والبشرية بكاملها في كفة، بل يصبح التاريخ العام للبشرية هو تاريخ العداء للسامية.

وهنا يتبادر السؤال كيف لنا مواجهة السيف الموضوع على الرقاب؟.. فهل من حلول؟


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن