أما مصطلح معاداة السامية (Anti-Semitism) فقد استُعمل للمرة الأولى سنة 1860 من قبل المفكر النمساوي اليهودي شتاين شنيدر، عند نقده لأفكار الفيلسوف الفرنسيّ إرنست رينان الذي تحامل ضد "الأعراق السامية"، ووصفهم بأنهم أدنى من "الأعراق الآريّة"؛ فاتّهم رينان أنه "معادٍ للسامية".
وبقي هذا المصطلح غير متداول حتى سنة 1873 حيث استعمله الصحفي الألماني ويلهلم مار في كُتيّب عنوانه "انتصار اليهودية على الألمانية"، وعبّر فيه عن موقفه المعادي للعرق اليهودي مستخدمًا مصطلح "معاداة السامية"، وأنشأ رابطة "المعادين للسامية" في برلين عام 1879 لمكافحة الخطر اليهودي، وقصر المصطلح على "معاداة اليهود" كمجموعة عرقية على وجه الخصوص دون غيرهم من الشعوب السامية الأخرى.
"شعب الله المختار"
هنا يتبادر سؤال مهم من أين جاءت فكرة العداء ضد اليهود؟
يرجع أغلب المفكرين إلى أنّ السبب هم اليهود أنفسهم، فهم يعدون أنفسهم "شعب الله المختار" والوحيد على الأرض الذي استودعه الله الوحي، أمّا البشر الآخرون فهم في مرتبة أدنى تكاد تقترب من الحيوانات، ويسمونهم "الأقوام" أو "الأغيار".
واستمدوا الفكرة من التوراة في سفر التثنية (14:2): "وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ"، وفي سفر أشعيا (49/23)أن الرب أمر كل أجنبي إذا لقي يهوديًّا أن يسجد له على الأرض ويلحس غبار نعليه.
الحركة النازية هي التي بلورت فكرة "معاداة اليهودية" وأضفت عليها منهجية وشمولًا
ومن هنا شعر اليهود بالتميز والتفرد عن غيرهم؛ ومارسوا فكرة "التمركز حول الذات" فانغلقوا داخل المجتمعات في أشكال متعددة، منها "الجيتو" في أوروبا و"حارة اليهود في مصر"، و"قاعة اليهود" في اليمن و"الملاح" في المغرب. ورفضوا التماهي مع النظم القائمة مما جعلهم محل شك وريبة، فقد ظل الاستعلاء اليهودي يجذب الكراهية، والكراهية تولد الحقد، والحقد يغري بالاضطهاد.
وأخذ التمييز ضد اليهود في أوروبا أشكالًا مختلفة، منها عدم منحهم حقوق المواطنة، وجعلهم يرتدون شارات خاصة بهم، وتم الاعتداء عليهم ونفيهم وتهجيرهم، كما وُجهت لهم الاتهامات بالقيام بأعمال مريبة كالخطف والقتل، وظهرت ما تُسمى بـ"المشكلة اليهودية" في أوروبا، وهي تبحث في وضع اليهود المدني والقانوني والوطني والسياسي بصفتهم أقلية في المجتمعات الأوروبية.
ويمكن اعتبار الحركة النازية هي التي بلورت فكرة "معاداة اليهودية"، وأضفت عليها منهجية وشمولًا، فمع صعود النازية في ألمانيا وتولي أدولف هتلر السلطة عام 1933، تبنت النازية أفكار القومية الألمانية وتفوّق العرق الآري وأخذت الممارسات المعادية لليهود والمجموعات العرقية الأخرى بالتصاعد بشكل ممنهج، كما حُمّل اليهود مسؤولية الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية التي أعقبت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى 1914-1918.
وبموجب قوانين نورمبرج الألمانية 1935 لم يعد اليهود مواطنين ألمانًا، ولم يكن لهم الحق في التصويت، وتعرضوا لممارسات مثل الفصل من الخدمة المدنية وتصفية الشركات المملوكة لهم، ومع تزايد الدعاية النازية ضد اليهود وإقناع الشعب الألماني بأنهم عنصر منفصل عن الألمان أصبح اليهود مشكلة لألمانيا، وأصبح اليهود أهدافًا اعتيادية للعنف والاضطهاد والاعتقال في معسكرات كبيرة.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية 1939- 1945 وفشل خطة النازية لتهجير اليهود بشكل جماعي، بَنَت السلطات النازية العديد من معسكرات الاعتقال في المناطق التي احتلتها من أوروبا، وجمعت فيها اليهود ومجموعات عرقية أخرى كالغجر الرّوم، إضافة إلى المعاقين والمعارضين السياسيين في ظروف غير إنسانية، وصولًا إلى القيام بعمليات إبادة جماعية ممنهجة ضدهم بما يُعرف بـ"الهولوكست".
هاجر كثير من اليهود فرارًا من الاضطهاد الممنهج ضدهم في أوروبا إلى أغلب الدول العربية وعاشوا في أمان
أما في العالم العربي والإسلامي الذي تنتمي شعوبه، وخاصة العرب، إلى السامية، فلم تكن ظاهرة "معاداة اليهود" تاريخيًّا منتشرة، والثابت تاريخيًّا أنهم عاشوا في سلام وأمان في ظل الحضارة الإسلامية، وشغل بعضهم المناصب العامة بالدولة، وعملوا بالتجارة والطب والفلسفة.. إلخ، منهم على سبيل المثال يعقوب بن كلس المقرّب من كافور الإخشيدي الذي عيّنه في ديوانهِ الخاص، وهناك موسى بن ميمون طبيب صلاح الدين، والسموأل بن يحيى المغربي ومئات غيرهم.
وفي العصر الحديث هاجر كثير منهم فرارًا من الاضطهاد الممنهج ضدهم في أوروبا إلى أغلب الدول العربية وعاشوا في أمان، وظهرت عائلات يهودية صاحبة نفوذ ومناصب وأعمال تجارية، مثل؛ عائلات سموحة وقطان وسوارس وقطاوي وموصيرى ونادلر وغيرهم، وامتلك بعضهم سلاسل محلات تجارية شهيرة، مثل؛ باتا وهانو وشيكوريل وبنزايون وداود عدس وريفولي وشملا وعمر أفندي... إلخ.
رد الجميل!!
وبعد بلورة الأفكار الصهيونية لفكرة إقامة كيان وطني لهم صمموا على أن تكون "دولتهم المزعومة" في قلب العالم العربي، وهكذا - وبمساعدة أوروبا الكارهة لهم - زُرعت "إسرائيل"، أكبر جيتو يهودي في التاريخ في فلسطين العربية، وهاجر إليها ملايين من يهود العالم، وكوّنوا عصابات يهودية مارست أكبر عملية تطهير عرقي في التاريخ، ونفذت مئات المذابح ضد أهل فلسطين، أبرزها مذبحة العباسية (1987)، والطنطورة (1948)، ودير ياسين (1948)، وصفصاف (1948)، وسعسع (1948).
لقد رد اليهود الجميل للعرب الذين آووهم من بعد تشريد، ففور إعلان دولتهم 1948 نهبوا ودمروا الأراضي الفلسطينية والمزارع والقرى والمدن، والمستشفيات والمدارس، وكانت سياسة العنف والعمليات الإرهابية التي نفذتها العصابات الصهيونية، وعلى رأسها كتائب الدفاع الذاتي "هاجانا" والمنظمة القومية العسكرية المعروفة بـ""إرغون" والمحاربون لأجل حرية إسرائيل المعروفة بـ"شتيرن"، ثم جيش الدفاع "الإسرائيلي" "زاحل".
يعترف موشية دايان أنه "لم تكن هناك قرية يهودية واحدة لم تُبنَ فوق موقع لقرية عربية"
وعملت تلك العصابات على طرد العرب بالقوة، واستمر الكيان اليهودي بسياسة سحق كل ما هو فلسطيني وإثارة رعب واسع النطاق، ومحاصرة وقصف قرى ومراكز سكانية، وحرق منازل وأملاك وبضائع، وطرد، وهدم بيوت، ومنشآت، حتى أرغمت الفلسطينيين على ترك ديارهم عنوة، وزرعت ألغامًا وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة لمنازلهم مما يعني أنّ التطهير العرقي كان هدفًا مقصودًا لتهجير الفلسطينيين عن ديارهم.
ومن يحاول البقاء من الأهالي ويتمسك بأرضه يتعرض للموت المحقق، ويعترف موشية دايان أنه: "لم تكن هناك قرية يهودية واحدة لم تُبنَ فوق موقع لقرية عربية".
وبعد التمكين وبكل تبجح لعبوا على وتر أنهم مضطهدون من العرب، وأنهم يتربصون بهم من أجل إبادتهم حتى نجحوا في الوصول إلى استصدار قانون "معاداة السامية"، وهذه لها قصة أخرى.
(خاص "عروبة 22")