تميّزت تجربة الرئيس قيس سعيد بوجود "هامش سياسي" لم تستفد منه المعارضة بالصورة المطلوبة، صحيح أنّ هناك قيودًا فرضت على حرية الرأي والتعبير وملاحقات أمنية طالت قيادات سياسية مدنية وليس فقط قادة حركة النهضة، إلا أنّ طبيعة "السلطوية المدنية" تسمح بإدارة معركة سياسية وانتخابية "بالنقاط" يمكن أن تدفع النظام لتوسيع هذا الهامش السياسي والديمقراطي.
وقد ميّز التجربة التونسية منذ ثورتها وحتى الآن أنّ أطرافها السياسية كلها كانت مدنية كما أنّ المؤسسة العسكرية ليست قوية وغير مسيطرة على الاقتصاد ولا مهيمنة في السياسة، كما أنّ رئيسها الحالي أستاذ قانون دستوري وجامعي جاء من خلال انتخابات ديمقراطية حقيقية حصل فيها على ٧٦٪ من أصوات الناخبين، وهو رجل قادم من خارج النخب والأحزاب السياسية السائدة مثلما يحدث في ديمقراطيات كثيرة ويعتبره كثير من الناس منقذهم.
ما يعتبره كثير من "الأصدقاء التوانسة" ردة عن الديمقراطية يُعتبر أملًا يتمنى أن يراه الكثيرون في مصر
صحيح أنّ صلاحيات الرئيس في الدستور الجديد واسعة وغير متعارف على كثير من نصوصها في النظم الرئاسية الديمقراطية، إلا أنّ طبيعة النظام والأطراف الفاعلة داخله تجعل من الصعوبة استمراره وهو معتمد فقط على الأداة الأمنية والقمعية.
والحقيقة أنّ الفرصة التي لاحت أمام الرئيس التونسي لإنجاز عملية انتقال ديمقراطي تراجعت في السنوات الأخيرة بسبب أداء الرئيس نفسه وفقدانه المتكرر للحلفاء وعدم إيمانه بالمؤسسات الوسيطة سواء كانت نقابية أو حزبية، ومع ذلك لم يلغها ولم يؤممها أو يجعل أجهزته هي التي تديرها وظل الاتحاد التونسي للشغل مؤثّرًا كمنظمة نقابية كبيرة ومستقلة.
وجاءت الانتخابات الرئاسية الحالية وأجهضت منظومة الحكم فرصة أخرى لإجراء انتخابات تنافسية ديمقراطية والبدء في عملية إصلاح سياسي خاصة عقب إعلان المحكمة الإدارية أحقية ثلاثة مرشحين للعودة للسباق الانتخابي، وهو القرار الذي لو كانت احترمته الهيئة "المستقلة" للانتخابات (ثبت بالقطع أنها غير مستقلة) لكانت خرجت الانتخابات بصورة تختلف جذريًا عن التجارب المعروفة نتيجتها مسبقًا في الجزائر ومصر.
وكان أبرز هؤلاء المرشحين، عبد اللطيف المكي الذي كان قياديًا في حركة النهضة واختلف معها وأسس حزبًا جديدًا أكثر انفتاحًا وقبولًا بالقواعد الجديدة للنظام القائم، وأيضًا منذر الزنادي الذي يُعد من وزراء الصف الأول في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ولديه حاضنة شعبية كبيرة وخطاب مدني حداثي يختلف عن خطاب قيس سعيد الذي يميل إلى العموميات ونظريات المؤامرة التي لا تشتبك مع مشاكل الواقع الحقيقية.
ورغم أنّ قرار المحكمة الإدارية ملزم إلا أنّ الهيئة "غير المستقلة" لم تحترمه واختارت الانتخابات المفصلة على الرئيس بدلًا من إجراء انتخابات تنافسية قد يربحها سعيد في النهاية، ولكنها ستفتح الباب لطي صفحته بانتهاء مدته الثانية والأخيرة بعد ٥ سنوات.
يقول قرار المحكمة الإدارية إنّ مؤسسات الدولة في ظل "سلطوية مدنية" يمكنها أن تقول لا في بعض القضايا وربما كانت قريبة من تنفيذ قراراها الأخير وهي مساحة غير متاحة في ظل "السلطويات العسكرية".
إن السلطوية المدنية في تونس فيها أطراف سياسية ونقابية لا يستطيع الرئيس التونسي تأميم نشاطها أو التعامل معها أساسًا بالأداة القمعية والأمنية، فهناك وجود لأحزاب سياسية داخل المسار الحالي مثل حركة الشعب التي لها مرشح في الانتخابات الرئاسية، وهناك أخرى خارج المسار الحالي محاصرة واعتُقل منها عشرات القادة وليس الآلاف، ونجدها تتظاهر في قلب العاصمة التونسية وتهتف ضد الرئيس وسياساته.
ما يعتبره كثير من "الأصدقاء التوانسة" أنه ردة عن الديمقراطية نتيجة القيود المفروضة على حرية الرأي وحركة الأحزاب، يُعتبر أملًا يتمنى أن يراه الكثيرون في بلد مثل مصر لأنه يُذكّرهم بالهامش السياسي الذي عرفته البلاد في عهد مبارك.
عرف النظام السياسي التونسي نُظُمًا سلطوية لكنها لم تقضِ على مبادرات المجتمع ولم تؤمم النقابات
إنّ وجود كيان نقابي عملاق اسمه الاتحاد التونسي للشغل له قاعدة اجتماعية قوية وحقيقية ولا تديره أجهزة الدولة، وأيّد قرارات قيس سعيد في البداية واختلف معه حاليًا وطالب بضرورة احترام أحكام المحكمة الإدارية، أمر لا يمكن أن نجد شبيهًا له في النظم العسكرية.
لقد عرف النظام السياسي التونسي منذ تأسيس الجمهورية نُظُمًا سلطوية مختلفة في الدرجة، ولكنها لم تقضِ على مبادرات المجتمع ولم تؤمم النقابات وعرفت هامشًا سياسيًا لا يقارن بقيود السلطويات العسكرية والأهم أنّ هذه النُظم المدنية ظلت تؤمن بالشعب، حتى لو كانت تعتبر نفسها وصية عليه كما جرى في عهد بورقيبة وقيس سعيد، وهو سيعني عمليًا أنّ فرصها لإحداث تحوّل سياسي وديمقراطي بكلفة محدودة لا زالت واردة، بل وراجحة في المستقبل المنظور.
(خاص "عروبة 22")