بصمات

فتنة الماضي المؤبّد.. العبء الثقيل على الوطن العربي

لئن بدا من الممكن أن يُشكّل الماضي عنصرًا من عناصر بناء التكامل العربي إذا ما نُظر إليه بصفته تاريخًا عربيًا مشتركًا يختزن مختلف الأبعاد الدينية والثقافية، فإنّه قد مثّل عبئًا ثقيلًا شلّ العالم العربي عن معالجة قضايا حاضره الحيوية وبناء مستقبله. بما أنّه خضع للتوظيف الإيديولوجي بحسب رهانات القوى الداخلية والخارجية، فضلّ محل تنازع هويّاتي وسياسوي ضمن نزعة ماضوية لا مبالية بالتحدّيات الراهنة التي تتربّص بالوجود العربي.

فتنة الماضي المؤبّد.. العبء الثقيل على الوطن العربي

يُحيل الماضي المؤبّد على منظومة ذهنية وثقافية متحجّرة يسمها الركود والجمود بفعل عوامل تاريخية أساسًا، تتقاطع فيها أبعاد مادية ورمزية متنوّعة وتتبوّأ فيها المسارات السياسية منزلة الصدارة فضلًا عن نوعية الأنظمة الانتاجية والمعرفية والثقافية التي تعدّ البنى العميقة لذلك الماضي المتكلّس ورافده الأخطر الذي يضمن استمراريته ودوامه.

وقد تفطّنت القوى الامبريالية إلى إمكانية التلاعب بذلك الماضي المؤبّد وتوظيفه لبسط هيمنتها وسلب العالم العربي قدراته، وإجهاض كلّ فرص التكامل العربي الممكنة. فاعتمدته آلية من آليات التدمير الذاتي للمجتمعات العربية، وجعلها تدور في حلقة مفرغة بتأجيج النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية الكامنة كمون النار في الحجر بين شعوبه ودوله.

التفكير الاستراتيجي قادر على تأمين دخول العرب للتاريخ مجدّدًا واستئناف دورهم الحضاري المعطّل

يُمثّل الماضي المؤبّد "عائقًا إبستمولوجيا" نحو دخول العرب للتاريخ بصفتهم أمّة لها الحقّ في الإبداع الفكري والحضاري، والوجود التاريخي الفاعل بما يمكّنها من الإسهام بنديّة وفعالية مثمرة في التحوّلات الكبرى التي ما فتئ يشهدها العالم منذ سقوط جدار برلين سنة 1989 وتحقّق الثورة الصناعية الرابعة.

يخترق الماضي المؤبّد في صيغته العربية الإسلامية جميع المجالات. فهو يكبّل تطوّر الثقافة السياسية وتجدّدها. إذ تستحوذ مقولة "الفرقة الوحيدة الناجية" على تمثّلات النخب السياسية وتفكيرها. ولعلّ من المفارقات اللافتة للنظر في هذا الصدد أنّ مقولة الفرقة الناجية نجدها حاضرة بالقوة أو بالفعل في تصوّرات تشكيلات متباينة تباينًا كلّيًا على صعيد المرجعية الثقافية والسياسية. وهو ما يشي بعمق تغلغل "إبستمي الماضي المؤبّد" في الثقافة السياسية العربية. وهذا ما يُفسّر إلى حدّ بعيد تعطّل الحداثة العربية وفشلها في جميع التجارب التحديثية مغربًا ومشرقًا، وتحوّلها إلى "حداثة مقلّدة" تقتصر على نقل شكليات الحداثة الغربية دون نفاذ إلى مفاهيمها وجوهرها. وهي عملية أشبه ما تكون باستيراد بندقية صيد دون تملّك قدرات صنعها مثلما أشار إلى ذلك برنارد لويس في سياق حديثه عن واقع الشرق الأوسط ومستقبله. (وهو تشخيص سليم رغم طروحات لويس العنصرية المعروفة).

ترشيد التعامل مع الماضي قد يشكّل أرضية صلبة لثورة فكرية قادرة على تفعيل استراتيجيات العمل العربي المشترك

يرتبط الماضي المؤبّد بعلاقة جدلية مع المتخيّلات الاجتماعية. فهو نتاج لها وعامل من عوامل تكلّسها في الوقت نفسه. إذ يزخر المخيال العربي بعناصر تتنافي مع روح الأزمنة الحديثة بحكم انتمائها وظيفيًا إلى عصر ما قبل الدولة الحديثة. فعلى سبيل الذكر يمكن الإشارة إلى أنّ الانتماءات القبلية والعشائرية، وتمييع العمل السياسي، والنفور من التفكير النقدي، والاستكانة والخضوع إلى طاعة أولي الأمر مهما بغوا، والنظام الأبوي البطركي كلّها أصداء ذلك الماضي المؤبّد وتداعياته. ومن ثمة فهي من الأسباب العميقة للتخلّف العربي واستمرارية حالة التشرذم والانقسام والانفصام التي تتناقض جوهريًا مع مقتضيات التفكير الاستراتيجي القادر على تأمين دخول العرب للتاريخ مجدّدًا واستئناف دورهم الحضاري المعطّل.

بقدر ما لا يمكن الحديث عن إمكانية حدوث قطيعة تامة مع الماضي المؤبّد، ليس لاستحالة بناء شخصية عربية متصالحة مع ذاتها وفاعلة في عصرها دون تقنين العلاقة مع الماضي وحسب، وإنّما لأنّ تلك القطيعة المعرفية تظلّ في حقيقتها مفهومًا نسبيًا بدليل استمرار تأثير الدين في المتخيّلات الاجتماعية والأعراف والتشريعات وعديد الأنماط السلوكية.

كلّما تأخّر العقل العربي في عقلنة موقفه توسّعت الهوّة السحيقة الفاصلة بينه وبين الاستجابة لنداء المستقبل

إنّ ترشيد التعامل مع ذلك الماضي البعيد والقريب من خلال تقديم قراءات جديدة للتراث تعيد تحقيبه في ضوء التحدّيات الراهنة أسوة بالقراءات التجديدية التي عرفتها الحضارة الإسلامية زمن ازدهارها مع مراعاة مختلف المتغيّرات المعاصرة، قد يشكّل أرضية صلبة لثورة فكرية وحضارية قادرة على الحسم وتصفية مخلّفات عصور الانحطاط والتقسيم الاستعماري للمنطقة العربية، وتفعيل استراتيجيات العمل العربي المشترك.

المستقبل ليس يوتوبيا حالمة، وإنّما هو ما يصنعه الإنسان بكدّه وجهده انطلاقًا من حاضره، واستئناسًا بالتجارب التاريخية الناجحة. لذا كلّما تأخّر العقل العربي في عقلنة موقفه من ذلك الماضي المؤبّد توسّعت الهوّة السحيقة الفاصلة بينه وبين الاستجابة لنداء المستقبل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن