قضايا العرب

معضلة "الهدر المدرسي": المؤشرات والمواجهات

المغرب - إيمان شفيق

المشاركة

لم يسلم الحقل التعليمي في المغرب من معضلة الهدر المدرسي، وهي أزمة تعاني منها أغلب الدول العربية، وبدرجة أقل دول منطقة الخليج العربي، التي سمحت لها ظروفها الاقتصادية، وخاصة الطفرة النفطية، لكي تنخرط في مواجهة مباشرة ضد هذه الآفة المجتمعية. ومن المعلوم أنّ هذه الآفة تساهم في تأزيم الوضعية التعليمية التي توجد في صلب سياسات التنمية، حتى إنّ أغلب التقارير الدولية ذات الصلة بمؤشّرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تضع أداء قطاع التعليم في مقدمة المحدّدات المؤثرة على ترتيب هذه الدولة أو تلك في سُلم التنمية.

معضلة

وفقًا لإحصائيات "المندوبية السامية للتخطيط"، وهي مؤسّسة رسمية تُعنى بتوفير مادة إحصائية لصنّاع القرار والرأي والخبراء، فإنّ حوالى 431,876 تلميذًا غادروا المدارس في عام 2022، مع نِسب مرتفعة في العالم القروي مقارنةً بالمدن.

وتُعزى هذه الظاهرة إلى عوامل متعدّدة، منها الفقر، قلّة البنية التحتية التعليمية، وبُعد المؤسّسات التعليمية عن مساكن التلاميذ. كما بلغ معدّل التسرب في المناطق القروية حوالى 5.7% خلال العام الدراسي 2022-2023، مقارنةً بـ3.9% في المناطق الحضرية.

هاجس الهدر المدرسي كان حاضرًا بشكل واضح في إحدى ردود وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، شكيب بنموسى، يوم الاثنين 8 يوليو/ تموز الماضي، في معرض جوابه على سؤال شفوي بالمؤسّسة التشريعية، حول الظاهرة نفسها، مشيرًا إلى أنّ عدد المغادرين للمنظومة التربوية "تراجع بنسبة 12 في المائة من 334 ألفًا خلال موسم 2021-2022 إلى 294 ألفًا في موسم 2022-2023، لكن مع الإقرار في آن بأنّ هذا العدد "لا يزال مرتفعًا"، وهذا إقرارٌ مهمٌ لأنّه يزكي استمرار الظاهرة بتداعياتها السلبية المعقدة.

في السياق الخاص بالتقارير الدولية، سبق لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونسكو" أن كشفت بالأرقام عن حجم الخسائر الاقتصادية التي يتكبدها المغرب سنويًا بسبب استفحال الهدر المدرسي، حيث اتضح أنّ الخسائر تتجاوز مليار دولار سنويًا، حسب مضامين تقرير جاء تحت عنوان "من التقاعس عن العمل: التكاليف العالمية الخاصة والمالية والاجتماعية المترتبة على عدم تعلم الأطفال والشباب"، وممّا جاء فيه أيضًا، أن "ظاهرة الهدر المدرسي تكلف الأفراد والأسر المغربية سنويًا 196 مليون دولار سنويًا عن كل نقطة مئوية في نسبة ظاهرة الهدر"، وواضحٌ أنّ هذا المعدل من الخسائر التي يتكبدها الأفراد، يأتي نتيجة انخفاض الدخل مدى الحياة عند أولئك الذين لا يكملون مسارهم التعليمي وما يترتب عن ذلك من زيادة احتمال معدلات البطالة.

ليس هذا وحسب، فقد تطرّق تقرير "اليونسكو" الصادر في يونيو/حزيران الماضي، إلى الخسائر المرتبطة بالشق الاجتماعي، وتصل إلى 188 مليون دولار سنويًا مقابل كل نقطة مئوية، ومرد ذلك الربط التلقائي بين الهدر المدرسي ومجموعة من الظواهر الناتجة عنه، من قبيل زيادة معدلات الجريمة، وانخفاض الإنتاجية.

المواجهة المركّبة

ما العمل إذن في مواجهة الظاهرة؟ وهل يمكن الحديث عن "حلول سحرية" يمكن أن تُقلّص من وتيرتها، أو على الأقل منافسة المكتسبات التي تحققت في بعض دول الخليجية، أم أنّ الأزمة مُرشّحة للاستمرار.

هناك عدة جبهات أو مجالات في المواجهة، منها ما تقوم به مؤسّسات الدولة، أو ما تقوم به منظمات المجتمع المدني، مع الاستئناس بما يصدر من قراءات بحثية حول الظاهرة، سواء في المؤسّسات الجامعية أو المراكز البحثية، وإن كان الإنتاج العلمي حول الموضوع متواضعًا مقارنة مع ما هو منتظر.

في الشق الخاص بأداء مؤسّسات الدولة، سبق لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، الوصية على القطاع، أن اتخذت مجموعة من الإجراءات الرامية إلى محاربة المعضلة، منها "العمل على مراجعة الإطار القانوني لوضع رقم تعريفي موحد من شأنه المساعدة على تتبع التلاميذ بشكل فردي، وتعميم التعليم الأولي باعتباره عاملًا أساسيًا يُساهم في خفض عدد الانقطاعات عن الدراسة، والمواكبة الفردية للتلاميذ من خلال معالجة التعثرات وتعزيز الدعم المدرسي بالنسبة للتلاميذ الذين يواجهون صعوبات في التعلم، كما هو الشأن في مدارس الريادة"، على أمل أن تشمل هذه الإجراءات "الرفع من جاذبية المؤسّسات التعليمية، خاصّة عبر الأنشطة الموازية، والارتقاء بنظام التوجيه المدرسي والمهني، وتأمين التمدرس الاستدراكي من خلال مدارس الفرصة الثانية، فضلًا عن تعزيز خدمات الدعم الاجتماعي المتمثلة في التعويضات العائلية المشروطة والنقل المدرسي والمدراس الداخلية".

وفي الشق الخاص بأداء المنظمات الأهلية، هناك مشاريع محلية تُنجز بالشراكة مع الوزارة الوصية في سياق العمل الميداني المشترك، بخاصّة المشاريع التي تهم المناطق القروية، باعتبارها الأكثر تضرّرًا. وفي هذا السياق، أطلقت بعض الجمعيات مشروع "الدعم التربوي"، ويروم تقديم دعم بيداغوجي ونفسي لتلاميذ المستويات الابتدائية، خصوصًا في القرى. ومنذ إطلاقه على سبيل المثال في تجربة نموذجية أجربت بضواحي مدينة سلا، على مقربة من العاصمة الرباط، استفاد من المشروع أكثر من 4500 تلميذ في 26 مؤسّسة تعليمية موزعة على مناطق قروية أساسًا.

وكانت من نتائج المشروع، أن أظهرت النتائج الإحصائية تحسّنًا ملحوظًا في نسب النجاح، من قبيل نسبة تناهز77.47% في مادة اللغة الفرنسية خلال 2023، أو 81.08% في الرياضيات خلال الفترة نفسها.

الوجه للآخر لهذه المبادرات، يفيد أنّه بالرغم من النجاحات التي حققها المشروع المعني، لا زال يواجه عدّة تحديات، منها قلّة الفصول الدراسية واضطرار المنظمات المعنية للعمل أيام العطل المدرسية لتعويض النقص الحاصل، إضافة إلى أنّ إضرابات الأطر التعليمية خلال السنوات الماضية، شكلت عائقًا إضافيًا أمام تقدّم المشروع.

يبقى الهدر المدرسي في المغرب، وفي الغالب الأعم في دول المغرب العربي، ظاهرة مؤرقة وتكاد تكون بنيوية، لكن وجود تجارب ناجحة بشكل أو بآخر في المنطقة العربية أيضًا، إضافة إلى إطلاق مثل هذه المبادرات الصادرة عن منظمات المجتمع المدني، يفيد في التقليل من آثاره السلبية، موازاة مع رهان أهم وأولى، عنوانه الإرادة السياسية، بدليل نتائج التجارب الغربية في هذا السياق، وبعضها أُنجز منذ قرن ونيف، كما هو الحال مع التجربة اليابانية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن