وتشير الدراسات التي تناولت هذا المفهوم كذلك رصد التجارب التي تابعت تجليات مفهوم رؤية العالم في الواقع إلى أن هناك أفرادًا - مجتمعات متى بلوروا رؤية للعالم فإنهم يتمسكون بمضمونها بثبات دون تبدل ولا تغيير مهما طال الزمن. في المقابل، وعلى النقيض تمامًا، تمرد أفراد - تحررت مجتمعات من النظرة الجامدة لرؤية العالم حيث أخضعوها للتغيّر الدائم في ضوء ما يطرأ على الواقع من تحولات.
بلغة أخرى، التزم الفريق الأول من الأفراد - المجتمعات برؤية للعالم "سكونية" غير قابلة للتغيير. بينما الفريق الثاني من الأفراد - المجتمعات فلقد تبنوا رؤية "ديناميكية" للعالم. وربما يكون السؤال الذي يفرض نفسه: ما الاختلاف بين "السكونيين" و"الديناميكيين"؟ وما الأثر المادي لكل رؤية على الواقع المعاش؟.
لا يكفي أن نفهم روح العصر بل علينا امتلاك حس نقدي لهذا العصر ما يمكّننا أن نكون فاعلين لا مفعولًا بنا
بالنسبة للسؤال الأول حول الاختلاف بين "السكونيين" و"الديناميكيين"؛ ينطلق "السكونيون" من أمرين حاكمين لرؤيتهم السكونية. الأول: الاستقرار الكوني؛ حيث يرون نظام الكون وعناصره مستقرة وغير قابلة للتغيير مطلقًا من جهة. وأنه تم اكتشاف كل أسراره ولم يعد هناك ما هو مخفي. والثاني: الثبات الاجتماعي؛ حيث كل العناصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية تكون بمثابة "قدر معطى" حسب تعبير الفيلسوف الكندي "تشارلز تايلور" (1931). أما "الديناميكون"؛ فلقد ساهم ميلاد الحداثة على تحررهم من فكرتَي الاستقرار الكوني، والثبات المجتمعي، إذ صاغت لهم وعيًا ذاتيًا تاريخيًا متحررًا من ثقل الثوابت والمرجعيات المطلقة ومن ثم نظرة/رؤية متجددة للعالم في ضوء ما يطرأ عليه من مستجدات. وتمثل هذا الوعي في القطيعة عن الماضي، وتُشكل وعيًا تاريخيًا ديناميًا ذا قدرة على فهم وإدراك العالم دائم التجدد ومن ثم الاستجابة لتحولاته ليس فقط المتجددة، بل "الطفرية".
أما بالنسبة للسؤال الثاني حول الأثر المادي لكل من الرؤيتين السكونية والديناميكية للعالم؛ فلا شك أنّ التاريخ يؤكد لنا أنّ الأفراد - المجتمعات التي لم تبارح الرؤية السكونية رؤيتها للعالم قد وهنت مع مرور الوقت وأصابها ما وصفناه في أحد كتبنا: ليس فقط "العجز" بل "ديمومة العجز"؛ أي أنّ العجز بات ملازمًا لهم. ومن ثم تخلى عنهم الإبداع، وانفلت منهم زمام المبادرة. على النقيض تمامًا، فإنّ الأفراد - المجتمعات الذين حرصوا على تجديد رؤاهم للعالم قد امتلكوا ما وصفناه بـ"ديمومة التحول". وهناك فارق نوعي بين الديمومتين ومن ثم ما سينتج عنهما من وجهات نظر ومواقف وأفعال.
فمن المتابعة التاريخية، يمكن القول إنّ الرؤية السكونية للعالم قد وقفت عند الشكل دون المضمون/المضامين، وربما الوقوف بصمود - في أحسن الأحوال - والحيلولة دون الانهيار أمام العالم الجديد الدائم التشكل: المتضاعف المعرفة، والمطرد التجدد التكنولوجي؛ خاصة في زمن ما بعد "جوجل". بينما اجتهدت النظرة الديناميكية للعالم - ليس فقط - في أن تكشف وتفكك وتفحص وتفند وتفسر، وإنما بأن تدفع نحو التغيير والتجديد والتقدّم. وهو ما يمكن تعريفه بالتصدي للمهمة التاريخية المركّبة التي تجمع بين روح العصر ونقده في آن واحد. إذ لا يكفي أن نفهم روح العصر - حسبه أحد المفاهيم المركزية في الفلسفة الألمانية - بل علينا امتلاك حس نقدي لهذا العصر وأي عصر. ما يمكّننا أن نكون مبادرين وفاعلين، ولا نكون بعد تابعين أو مفعولًا بنا.
دون "فضيلة المراجعة الدائمة" لا يمكن أن نسد الفجوة المعرفية بيننا وبين العالم
إنّ أي إطلالة سريعة على واقعنا العربي: الثقافي والمادي؛ سوف تشير إلى أنّ رؤيتنا للعالم لم تزل أسيرة للحظة ماضوية لا يبارحها العقل العربي الفردي - المجتمعي (ببناه ومؤسساته المتعددة). إذ يركن الأفراد - المجتمعات إلى سكنى الكهوف "ينتظرون الفجر" بينما الشمس ساطعة خارجه. فالأسئلة الجوهرية نجترها دومًا، وبالتبعية الإجابات. لذا لا نلتفت إلى أية أسئلة جديدة تفرضها المعرفة المتضاعفة والتقنيات المتجددة المطردة. كما تستغرقنا الثنائيات الحادة التي تجاوزتها أزمنة الحداثة المتعاقبة إذ صبغت العالم بالتركيب والتشبيك.
إنّ بلورة رؤية للعالم ذات طابع ديناميكي - حركي وحيوي - يستجيب للتحولات الطفرية إنما يحتاج العمل على التأسيس لمسار تاريخي جديد يقوم على رؤية للعالم - دائمة التجدد - تنطلق من نهج مركّب رباعي العناصر يتضمن الدأب على: إعادة التفكير، وإعادة الدراسة، وإعادة الفهم، ومن ثم إعادة التنظير.
إنها "فضيلة المراجعة الدائمة"؛ ودونها لا يمكن، ولن نتمكن، أن نسد الفجوة المعرفية بيننا وبين العالم. ومن ثم ستظل رؤيتنا للعالم سكونية ما يعني الوقوف في المكان.
(خاص "عروبة 22")