اقتصاد ومال

التعليم والتكوين في العالم العربي: أيّ أنموذج لمواكبة المستقبل؟ (1/2)

سعت مختلف الدول العربية منذ نيل استقلالها إلى ملائمة آليات التكوين والتعليم مع متطلبات النمو الاقتصادي، رغبةً في تحقيق اكتفاء ذاتي من الموارد البشرية في شتى القطاعات، والتأسيس لاقتصاد سيادي وطني تتحكم فيه عقولٌ وسواعد محلية، وهي الغاية التي ظلت غير مُدركة على مدى عقود طويلة لدى عدد كبير من الدول العربية، على الرغم من الجهود المبذولة لتطوير منظومة التعليم والتكوين والبحث العلمي طيلة السنوات الماضية، فأين يكمن الخلل؟

التعليم والتكوين في العالم العربي: أيّ أنموذج لمواكبة المستقبل؟ (1/2)

لقد ضاعفت الدول العربية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي جهودها لإنشاء جامعات ومعاهد ومراكز تكوين الأُطُر والتكوين المهني، رغبةً في تدارك الفجوة التي خلفها الاستعمار على مستوى تكوين الموارد البشرية، وسعيًا لتزويد القطاعات الاقتصادية والدوائر الحكومية بحاجتها من الكفاءات ولتنزيل مختلف التوجهات والاستراتيجيات التنموية.

واقع الموارد البشرية بعد الاستقلال

وإن كانت دولٌ كمصر وسوريا ولبنان قد استطاعت خلال فتراتٍ مبكرة تسريع عملية تكوين وتأهيل مواردها البشرية من ذوي الكفاءات العالية في قطاعات الطب والهندسة والتعليم، إلّا أنّ دولًا أخرى كالمغرب والجزائر وليبيا لم تتمكّن من تحقيق الغاية نفسها، وظلت بحاجة كبيرة إلى موارد بشرية مؤهلة، كان لمصر وسوريا دور كبير في توفيرها عبر توجيه فائض الأطر ذوي الكفاءات العالية إلى هذه البلدان التي اختارت أيضًا الاحتفاظ بجزء من العمالة الأجنبية عالية التأهيل التي كانت تعمل بها قبل الاستقلال، وذلك لبضع سنوات أخرى إلى حين استكمال عملية نقل المعرفة والمهارات إلى العمالة المحلية، وكذلك من أجل تجنب تعطيل قطاعات اقتصادية وحكومية حساسة.

سياسة "تعريب" الإدارة والتعليم والحياة العامّة أسفرت عن مغادرة عدد كبير من الموارد البشرية الأجنبية المؤهلة للمغرب

إلى جانب ذلك، شهدت هذه الحقبة أيضًا تعاظم الطلب الخليجي على اليد العاملة العربية المؤهلة وغير المؤهلة بعد توالي الاكتشافات النفطية وتبنّي خطط طويلة الأمد لتطوير المنطقة، وهو ما جعل الخليج العربي نقطة جذب كبيرة لتدفقات الهجرة العربية بكل أشكالها ابتداءً من ستينيات القرن الماضي.

التكامل العربي العرضي وغياب الرؤية

إلى جانب هذه التوجهات "التكاملية - العرضية" التي لم تكن نتاج توافقات عربية مُسبقة ولا ثمرةً لرؤيةٍ استراتيجية واضحة المعالم، بقدر ما كانت نتيجة واقع فرضه السياق الاقتصادي والاجتماعي العربي آنذاك، عمدت بعض الدول العربية لتجاوز نقص الأطر المؤهلة ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي إلى تسريع وتيرة تكوين الأطر وتأهيل الموارد البشرية الوطنية، عبر تبنّي مجموعة من السياسات الرامية إلى إصلاح منظومة التعليم والتكوين.

تضاؤل عدد المنتسبين للتخصصات الحيوية مرتبط بضعف الاستثمار في التعليم والتكوين والبنية التحتية

فعلى سبيل المثال لا الحصر، عمد المغرب خلال هذه الفترة إلى نهج سياسة عُرفت فيما بعد بـ"مغربة" الأطر و"تعريب" الإدارة والتعليم والحياة العامّة، وهي توجهات تمت صياغتها على عجل، استُحضر خلال إعدادها مجموعة من الاعتبارات السياسية المحضة، أسفرت عن مغادرة عدد كبير من الأطر والموارد البشرية الأجنبية المؤهلة للمغرب، تلاه أيضًا ولأسباب سياسية مغايرة مغادرة عدد كبير من الأطر العربية بعد تأزم العلاقات بين المغرب وعدد من الدول العربية على خلفية حرب الرمال وأزمة الصحراء، وهو الأمر الذي كانت له عواقب وخيمة على أداء عدد من القطاعات الاقتصادية والدوائر الحكومية، عملت المملكة المغربية على تداركها من خلال تعزيز البنية التحتية الجامعية ورفع عدد الخريجين وتأسيس عدد كبير من المدارس والمعاهد التقنية والصناعية والفلاحية، وهي توجهات كانت عمومًا عبارة عن ردود فعلِ متسرعةٍ لم تستحضر الحاجيات الحقيقية للمغرب على مستوى خارطة التخصصات العلمية والمهنية، ولم تستند إلى استراتيجية تدمج بين ثنياها الأبعاد الاستشرافية.

أسهمت هذه السياسات خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات في تضخم عدد الخريجين ذوي المؤهلات العالية، خاصّة في التخصصات القانونية والأدبية والاجتماعية، في مقابل تضاؤل عدد المنتسبين للتخصصات الحيوية كالفلاحة والطب والهندسة والعلوم والتكنولوجيا وغيرها، وهو أمر مرتبط أيضًا بطبيعة التكوين الأساسي الذي كان يُغدي التوجهات نحو التخصصات القانونية والأدبية والاجتماعية بشكل خاص، وكذلك مرتبط بضعف العرض التكويني الجامعي في التخصصات سالفة الذكر طيلة العقود الماضية، وأيضًا بضعف الاستثمار في التعليم والتكوين والبنية التحتية، حيث كانت الموازنات المخصصة للتعليم والتكوين غير مستقرة وغير كافية لتجديد المنظومة ومواكبة التطورات التي كان يشهدها العالم في هذا المجال، وذلك في ظل توجيه معظم الموازنة لحفظ التوازنات الاقتصادية ودعم الأسعار ولخدمة الأمن والمجهود الحربي، خاصّة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حين كانت المملكة تخوض حربًا ضروسًا في الصحراء، وحين كان المشهد السياسي جد مضطربٍ نتيجة الصراع بين القصر وعددٍ من الفاعلين السياسيين الذين جعلوا من الجامعة أحد أحجار رقعة الشطرنج التي دفعت ثمن الصراع السياسي غاليًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن