من حملة الدعاية التي قادها باراك أوباما سنة 2008، إلى ثورات الربيع العربي سنة 2011، وصولًا إلى أحداث الانقلاب في تركيا سنة 2016، تحولت التكنولوجيا الرقمية قوة تأثير وتوجيه وتعبئة، قادرة على إحداث تغيّرات في المشهد السياسي لأي دولة، ما دام أفراده يحافظون على تواجدهم الشبكي، ويداومون التفاعل والحوار والتواصل لتقاسم الأفكار والتجارب والخبرات. ضمن هذا التوجه صدر خطاب مشرعن أُطلق عليه: "خطاب مجتمع المعلومات" (Pierre Lévy)، والذي تبلور خاصة حول "الديمقراطية الإلكترونية أو الديمقراطية السيبيرية" (الافتراضية).
مشكلة تتعلق بظروف الديمقراطية الإلكترونية العربية التي أمكن الاصطلاح عليها بـ"الديكتاتورية التشاركية"
في ضوء ذلك لجأت التنظيمات السياسية العربية كما غيرها (الحكومات، الأحزاب، جماعات الضغط، الأفراد الذين يسعون إلى قيادة الرأي العام وتوجيهه وطرح أيديولوجيا أثناء الانتخابات أو أثناء بناء السياسات العامة أو إقرار التشريعات..)، إلى الانتقال من الاهتمام بالجمهور في إطار الفضاء العمومي التقليدي، إلى الاهتمام بالمستخدمين داخل الفضاء الشبكي، واعتقد حينها - خاصة في سياق ثورات الربيع العربي - أنّ ذلك وفر بنية الفرصة الاستطرادية التي انتظرتها الشعوب العربية، كي تشارك وتنخرط بحرية أكبر في المناقشات التي تتعلق بالرأي العام أو صناعة السياسات العمومية، أو إحداث توافق وإجماع حول القضايا، أو حتى التقرير في مصير الدولة ونظامها السياسي، ولذلك اعتُبرت التكنولوجيا الرقمية وسيلة لتحقيق المجتمع العربي الفاضل (الأكثر ديمقراطية) الذي سالت من أجل بلوغه جماهير كثيفة في الشوارع مطلع سنة 2011، لكن كما يؤكد جيرباودو (2018)، التحول في هذه الوسائل لم يكن فقط تكنولوجيًا ولكن أيضا سياسيًا. الأمر الذي فتح أعين الفاعل السياسي العربي التقليدي وبنى الدولة السلطوية على أهمية الحضور في الفضاء الشبكي، إيمانًا بقوته وقدرته على تحديد وصنع مفاصل الرأي العام في أي دولة عربية.
ولذلك مباشرة فيما بعد 2014 أثبت واقع حال معظم البلدان العربية نكث الوعود التي قدمتها التكنولوجيا الرقمية، والفاعلون السياسيون الحاضرون من خلالها، إذ بدت منصات المشاركة السياسية أكثر استخدامًا "كأداة للقيادات للتحقق باستمرار من التوافق أو قياس شعبيتها، بدلًا من أن تكون مساحة لصنع القرار الحقيقي والتعددية، من ذلك مثلًا أكدت مستشارة المجلس البلدي بـ"فيلفورد" (بلجيكا) "ف،ط"، وهي مواطنة بلجيكية وناشطة سياسية من أصول مغربية، على أنها تجيب عبر صفحتها على فايسبوك (بصفة يومية وإن كان الأمر شاقًا) عن استفسارات وتعليقات وردود المواطنين قدر الإمكان، خاصة إذا كانت هناك قضية شائكة تحتاج تدقيقًا أو مناقشة، وقد استغربت هذه المستشارة غياب هذه الخطوة لدى السياسيين المغاربة والعرب، ومن ثم غياب الديمقراطية التشاركية المحلية على مستوى الفضاءات الرقمية.
مشروع "كونغرس رقمي عربي" أمر مُلح ومستعجل
الأمر الذي يضعنا أمام مشكلة تتعلق بظروف الديمقراطية الإلكترونية العربية، المبنية بوساطة تكنولوجية، والتي أمكن الاصطلاح عليها بـ"الديكتاتورية التشاركية"، حيث أسكتت الأغلبية رأي الأقلية من الشبكيين، غير أنها أغلبية شكلية، تشتغل ضمن أجندة أقلية مهيمنة ومتميزة تكنولوجيًا، والتي تكون في الواقع قادرة على المشاركة وقد تنتهي إلى إسكات صوت الأغلبية بشكل سري، سواء في إطار نوع من الخطاب غير المعلن/المخفي أو من خلال استراتيجية تسويقية للسياسيين، إذ نشر مجلس الإشراف الرقمي التابع لـ"ميتا" في 2024 تقريرًا حول "الإشراف على المحتوى في عام الانتخابات التاريخي"، واعترف من خلاله أنّ منصات التواصل الاجتماعي، "يمكن استخدامها للتحريض على العنف ذي الصلة بالانتخابات أو نشر الأكاذيب لمحاولة التلاعب بالرأي العام والتأثير على النتائج. ويمكن أن يفاقم الإنفاذ غير الدقيق من قِبل المنصات من هذه الانتهاكات".
وعند هذا المستوى، اقتصر دور المستخدمين في الفضاءات الشبكية العربية حاليًا على استهلاك المحتوى الرقمي دون أي تفاعل. مثل قراءة المقالات أو مشاهدة الفيديوهات دون التعليق أو المشاركة، وفي أحسن الأحوال يبدأ الأفراد في التفاعل مع المحتوى عبر الإنترنت، مثل الإعجاب أو مشاركة المنشورات، دون إضافة قيمة جديدة. الأمر الذي يجعل من مشروع "كونغرس رقمي عربي" يتابع ويوسع صلاحيات مشاركة المواطنين على المنصات، ويقدم توصيات لدى المنصات العالمية لضمان الحرية والشفافية والديمقراطية التشاركية، كما يقدم تنبيهات على خطاب العنف والكراهية والتهديد ذي الصلة بالحملات الانتخابية وتدبير الحياة السياسية في البلاد العربية، أمرًا مُلحًا ومستعجلًا.
(خاص "عروبة 22")