وتحت سقف هذه المعادلة المتموضعة تحت سقف الحرب، خاض "حزب الله" مواجهاته الإشغالية مع الاحتلال، مركزًا جهوده على الحرب النفسية وفيديوهات "مُسيّرات الهدهد" وقواعد الأنفاق علّها تردع العدو من العدوان على لبنان وترسّخ قواعد الاشتباك كما يراها.
وعندما تجاوزت صفقة غزّة مرحلة ما بعد الموت السريري جرّاء اختناقها بمناورات رئيس حكومة الكيان، وفي ذروة التباين مع بعض وزرائه وتحت ضغط الشارع المطالب بصفقة تنقذ المحتجزين في غزّة، قرّر نتنياهو نقل الحرب إلى جبهة لبنان والتي اشتعلت بشكل دراماتيكي بفعل الاغتيالات المتوالية التي استهدفت قادة عسكريين مؤسّسين كبار في الحزب وصولًا إلى أمينه العام السيد حسن نصرالله.
وكان الدراماتيكية قد بلغت ذروتها بمجزرتَي أجهزة البيجر التراسلية والأجهزة اللاسلكية والتي أوقعت عشرات الشهداء والآف الجرحى من كوادر الحزب الذي وقع في صدمة وإرباك لم يشهدهما في تاريخه. فقد تمكن العدو من المسّ بأوتاره النفسية وأوردته الدموية وجهازه العصبي المركزي المنتشر أفقيًا وعموديًا والمُحاط بهالة من السرّية. ما قيّد للاحتلال تحقيق هدفين مركزيين.. الأول، إبهار جمهوره بقوة "إسرائيل" واقتدارها المجنون على النيل من الأعداء. والثاني، تسديد ضربة للنخاع الشوكي للحزب وهزّه من داخله، وهزّ بيئته اللصيقة والعامة. إنها الحرب الجديدة التي يعتقد قادة الكيان أنها استعادت قوة الردع.
صحيح أنّ عمليتي البيجر والأجهزة اللاسلكية أفصحت عن مجزرة، لكن الصحيح أنّ "إسرائيل" ما نفّذت هذه المجزرة إلّا بعد استهداف "حزب الله" مقرّ وحدة الـ8200 المتخصّصة بالتكنولوجيا والتجسّس والاختراقات والتي اتهمها الحزب باغتيال قائده العسكري فؤاد شكر. فما الذي ستفعله "إسرائيل" ردّا على استهداف الحزب لمقر قيادة "الموساد" في تل أبيب بصاروخ "قادر 1" البالستي، الذي ربما وقف وراء تفعيل الاتصالات الدبلوماسية الهادفة وفقًا للمبادرة الأمريكية الفرنسية المدعومة عربيًا لوقف إطلاق النار لثلاثة أسابيع!
قواعد الاشتباك التي حاول "حزب الله" إرساءها تلاشت والاحتلال يجهد لتفجير التناقضات المجتمعية الداخلية
ما تقدّم لا يهدف إلى إبراز الفجوة التكنولوجية والتسليحية بين "إسرائيل" و"حزب الله"، فهذا أمر يعرفه الجميع. بل يهدف للتذكير بمؤتمر التكنولوجيا والأمن السيبراني الذي نظمته اسرائيل منذ عامين، وبرز فيه استعلاء نتنياهو (حتى بل على دول كبيرة) وهو يستعرض شاشة عملاقة تقول إنّ "إسرائيل باتت تمتلك 20% من الاستثمارات في الأمن السيبراني.. وتجاوزت حجمها بمائتي ضعف، وأنّ التكنولوجيا الإسرائيلية تقود العالم، لأنها تمتلك الإمكانات للأمن والاستخبارات والإمكانات الهائلة للتكنولوجيا المدنية" وختم نتنياهو استعراضه السيبراني أمام المؤتمر بنشوة استعلائية سمجة قائلًا: "نحن نصبغ العالم باللون الأزرق، وقريبًا سنعزل الدول التي تنادي بعزلنا، ونفرض المقاطعة على مقاطعينا".
أمام كلام نتنياهو هذا، يمكننا إدراك بعض الاختراق في دولنا ومجتمعاتنا ويمكننا إدراك سبب انخراط وسائل التواصل الاجتماعي والتي تتخذ من تل أبيب مقرًّا إقليميًا لها، في تبنّي سرديّة "إسرائيل" توازيًا مع خنق السرديات الأخرى. كما علينا ألّا نفاجأ بأنّ بنك الأهداف الاسرائيلي في يومه الأول ضد "حزب الله" ولبنان قد استغرق إعداده نحو 15 عامًا.
وعليه، ينكشف المشهد على مسرح عمليات حربي ضدّ حزب الله ولبنان، مشهد يبيّن أنّ قواعد الاشتباك التي حاول "حزب الله" إرساءها تحت سقف عدم الانزلاق إلى حرب شاملة قد تلاشت. وما يجهد الاحتلال لفعله فضلًا عن هزّ أعصاب الحزب الداخلية وتأليب بيئته التي يجرّعها الدمار والقتل والنزوح، هو تفجير التناقضات المجتمعية الداخلية التي ورغم خلاف بعضها السياسي مع "حزب الله" إلا أنّها فتحت مناطقها وبيوتها لاستقبال النازحين من الجنوب والبقاع ومحاولة إيوائهم والتخفيف من مأساتهم.
صحيح أنه لا يمكن الركون إلى بعض التلميحات بخصوص تفجير التناقضات الداخلية، لكننا وأمام القصف الصهيوني المطاول للجغرافيا والدينوغرافيا الشيعية وتنزيحها قسرًا، ربما نجد أنفسنا أمام أمر عمليات داخلي يسفر عن تحقيق ما أخفق عدوان تموز 2006 في تحقيقه على مستوى "جبهة الإسناد اللبنانية".
إيران باتت تتحدث عن السلام أكثر من "الأم تريزا" بعدما أشبعتنا صواريخ صوتية
لهذا ينبغي التوقف مليًا أمام بعض الأصوات المحسوبة على المعارضة السورية وبأصداء أصوات لبنانية وعربية لديها حسابات تريد تصفيتها مع الحزب، وهي تمتدح الحرب على "حزب الله"، وعلينا ألّا نفاجأ بما أعدّه "المخرج" محلياً لزوم ساعة الصفر التي ستطلق صفاراتها باسم تطبيق القرارات الدولية الخاصة بلبنان، علمًا أنّ الاحتلال أطلق توحشّه ضد لبنان باسم الفصل بين جبهتي غزّة ولبنان، وهو الفصل الذي كان دونه لاءات زعيم حزب الله الراحل وخطوطه الحمراء.
على منوالها في غزّة، تنسج الادارة الأمريكية جهودها تحت عنوان خفض التصعيد ومنع توسّع الحرب في لبنان، وضمان عدم تدخل إيران التي باتت تتحدث عن السلام أكثر من "الأم تريزا"، بعدما أشبعتنا صواريخ صوتية مثل "قادرون على تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف"، لكنها بلعت تهديداتها واحتفظت، حتى أجل غير مسمّى، لنفسها بحق الثأر لدماء ضيفها اسماعيل هنيّة.
بالأمس، كانت غزّة، واليوم لبنان، وغداً المنطقة، وبعد غد العالم بأسره، لأنّ "إسرائيل" يجب أن تعيش آمنة ولو دمّر الكوكب بأسره، ما يعني بأنّ هزيمة مقاومة "إسرائيل" سوف لن تجعل للعرب والمنطقة قائمة تقوم لمئة سنة قادمة.
(خاص "عروبة 22")