الواقع أنّ النهج المعادي للمقاومة موجود بيننا دائمًا إما لغياب الرؤية الصحيحة لخطر المشروع الصهيوني لا على فلسطين فحسب وإنما على الوطن العربي بأكمله أو لمصالح وانتماءات محددة، وقد كان لأنصار هذا النهج تجلياتهم دائمًا حتى في مواجهة آليات المقاومة السلمية، ولا أنسى أبدًا الشعار الذي هتف به أحدهم يومًا "كفى للانتفاضة"، فما بالنا بالموقف من الكفاح المسلح!
وقد ظهرت هذه التجليات بوضوح منذ بداية عملية "طوفان الأقصى"، غير أنها كانت تخفت وتتوارى من حين لآخر كلما تأكدت تضحيات المقاومة وإنجازاتها، وإن ادعى البعض حرصًا على أرواح البشر وممتلكاتهم، وكأن الاحتلال لم يستبح هذه الأرواح والممتلكات منذ بدأ المشروع الصهيوني في فلسطين يستقوي، ويُظهر ممارساته الإرهابية ضد شعبها بلا حدود، وكأن الشعوب لم تقدم الملايين من أبنائها على مذبح النضال من أجل التحرير سلمًا أو حربًا، وهل ننسى عشرات الآلاف من شهداء الجزائر الذين قضوا في مظاهرات مايو ١٩٤٥ السلمية التي لم يطالبوا فيها سوى بحقهم في الاستقلال فجاء الرد الفرنسي بقصفهم بالطيران، وإيقاع ما وصل في بعض التقارير إلى ما لا يقل عن ٤٠ ألف شهيد.
الاختلافات تتوارى للخلف أمام العدو المشترك كي نتحد في مواجهته
كان النهج المعادي للمقاومة حاضرًا بيننا دائمًا إذًا، لكنه كان يستحي أحيانًا من صمود المقاومة وإنجازاتها، أما وقد وُجهت للمقاومة اللبنانية ضربات موجعة، وخفتت نسبيًا أعمال المقاومة في غزّة، فقد وجد أنصار هذا النهج الفرصة للطعن في جدارة المقاومة، والتشهير بما جلبته على شعوبها من ويلات، ومن ثم تسديد الضربة القاضية لها، فمنذ البداية كانوا يحاولون استغلال انتماء "حماس" لجماعة "الإخوان المسلمين" وعلاقة "حزب الله" اللبناني بإيران للتشكيك في جدارتهما بالتصدي لمقاومة الاحتلال، وكاتب هذه السطور من المختلفين مع أيديولوجية هذه الجماعة وممارساتها، والمتحفظين على بعض ممارسات "حزب الله" في الداخل اللبناني وعلاقته بإيران، لكني أقول إنّ هناك ما يُسَمَّى بالتناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، فالاختلافات السابقة تتوارى للخلف أمام العدو المشترك كي نتحد في مواجهته.
وإذا كان الطعن في المقاومة بسبب الخسائر المادية والبشرية الهائلة التي حدثت للشعبين الفلسطيني واللبناني فالشاهد أنّ آلة القتل الإسرائيلية تعمل دون توقف أو كلل بغض النظر عن المقاومة من عدمها، ولينظروا في انتهاكات الكرامة الإنسانية لأهل غزّة والضفة الغربية بمقاومة ودون مقاومة، كما أنّ خبرات التحرر الوطني في كل مكان تشهد بأن الملايين قد قضوا بسبب الممارسات الاستعمارية سواء على نحو مباشر بالقتل، أو على نحو غير مباشر بما يُسَمَّى بالعنف البنيوي كالتجويع والحرمان من أبسط مقومات الحياة، كما تفعل إسرائيل في غزّة منذ عام، وهو امتداد لممارساتها الاستعمارية في فلسطين عبر عقود.
ويذهب العاقلون من منتقدي المقاومة إلى أنّ الخطأ ليس في الغاية وإنما في الوسيلة، فالكفاح المسلّح في مواجهة قوة متفوّقة عسكريًا كإسرائيل يعكس خللًا جسيمًا في الحسابات وسوء تقدير، ومن الحقيقي أنّ أساليب النضال تتباين من السلمي منها إلى العسكري، وكلها فاعلة إذا أُحسن توظيفها، فقد حرر غاندي الهند بالمقاومة السلمية وحدها، وبدأ نضال الشعب في جنوب أفريقيا بزعامة مانديللا بالنضال المسلح ثم انتقل للمدني ونجح، وحرر الشعبان الجزائري واليمني بلديهما بالنضال المسلح، والمهم هو اختيار الوسيلة المناسبة لكل حالة.
النضال المسلح سواء في غزّة أو لبنان حقق نتائج باهرة لكن المسألة تبقى قيد النقاش لحساب الأسلوب المناسب لكل حالة
وبالنسبة لغزّة على سبيل المثال فإنّ فكرة شارون القاضية بفك الارتباط من جانب واحد، ومن ثم انسحاب إسرائيل من غزّة في ٢٠٠٥ لم يترك لأهلها من سبيل سوى النضال المسلّح في وجه الحصار الخانق، والأمر نفسه ينطبق على احتلال إسرائيل لأراضٍ لبنانية، ويجب أن يكون واضحًا أنّ النضال المسلح سواء في غزّة أو لبنان سبق أن حقق نتائج باهرة تمثلت في إجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب من الشريط الحدودي المحتل في لبنان في ٢٠٠٠ ومن غزّة في ٢٠٠٥، لكن المسألة تبقى قيد النقاش على أي حال في المستقبل لحساب الأسلوب المناسب لكل حالة.
قد تتعرّض المقاومة لانكسارات، لكن مآلها الحتمي هو الانتصار ولو بعد حين مهما عظمت التضحيات.
(خاص "عروبة 22")