بعد أشهر من التجويع الممنهج وتقطيع أوصال قطاع غزة عبر انشاء محاور جديدة وتعزيز السيطرة الميدانية العسكرية قررت اسرائيل تحت هول الضغوط الداخلية والخارجية السماح بإدخال المساعدات الى قطاع غزة عبر عمليات اسقاط جوي وممرات انسانية مؤقتة كما أعلنت عن "تعليق تكتيكي محلي للأنشطة العسكرية لأغراض إنسانية" في مناطق محددة من القطاع، اعتبارًا من يوم الأحد وحتى إشعار آخر.
وهذا القرار وإن بدا محاولة لتلميع وجه تل أبيب ونفي التهم المنسوبة اليها من استخدام التجويع كسلاح حرب، الا انه يخفي في طياته أسبابًا سياسية وعسكرية استراتيجية تتعلق بمسار الحرب والاهداف التي تحاول تل أبيب تحقيقها خاصة بعد "الانسحاب المفاجىء" من جولة المفاوضات الاخيرة في العاصمة القطرية الدوحة رغم كل ما أُشيع عن تحقيق تفاهمات معينة يمكن ان تفضي الى وقف لاطلاق النار. وعليه، فان اسرائيل تسعى من خلال قرارها الاخير "استعطاف" العالم بينما تطبق سيطرتها على القطاع الذي يئن أهله من العوز والفقر والوجع بعد 22 شهرًا من حرب الابادة. وقد شكلت الضغوط الدولیة والتحذيرات المتكررة من تفشي المجاعة، عاملًا ضاغطًا على حكومة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو خاصة أن العديد من الدول الاوروبية الحليفة لاسرائيل خرجت عن صمتها وبدأت بتوجيه انتقادات علنية لسياساتها وطريقة خوضها الحرب.
وعلى قاعدة "الرضوخ" قرر نتنياهو ان يبدو "انسانيًا" ويمنح القطاع "هدنة" بينما تبتكر القيادة العسكرية الاسرائيلية خططًا جديدة لاستمرار القتال في غزة، الذي وبحسب معطيات الجيش الاسرائيلي لا يزال القطاع هو "ميدان الحرب الأساسي"، معتبرًا أن عملية "عربات جدعون" حققت جميع أهدافها في القطاع على الرغم من ان الاحتلال يواجه يوميًا حوادث امنية تودي بحياة جنوده وضباطه بعدما اعتمدت الفصائل المقاتلة على اساليب جديدة لخوض المعارك ناهيك عن فشلها في تحرير رهينة اسرائيلية واحدة طوال هذه الفترة مع ان القطاع تحول الى كومة من ركام لا حياة فيه بينما يحتشد مليوني فلسطينيي في خيام مهترئة لا تقيهم من شدة الحر والامراض الفتاكة التي تنتشر بالقطاع بسبب التدهور الحاد في القطاع الصحي وغياب معايير النظافة وتدمير البنى التحتية الرئيسية.
تزامنًا، أشارت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" إلى أن مئات من الحاخامات اليهود من مختلف أنحاء العالم وقعوا على رسالة، جاء فيها أنّ "الشعب اليهودي يواجه أزمة أخلاقية خطيرة"، داعين إسرائيل إلى "وقف القتل الجماعي للمدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال وكبار السن، أو استخدام التجويع كسلاح حرب". ومنذ حرب غزة تتزايد الهجمات على الاسرائيليين والدعوات للاقتصاص ممن يشاركون في القتال هناك خاصة ان ما يجري في القطاع (كما في الضفة الغربية) والمشاهد التي يتم نشرها على نطاق واسع خلقت رأيًا عامًا مناهضًا لتل ابيب وداعمًا للقضية الفلسطينية وهو ما يمكن اعتباره يحدث لاول مرة على هذا المستوى العالمي حيث فضحت الحرب زيف الادعاءات الاسرائيلية واكدت مخططاتها التوسعية الاستيطانية القائمة على تهجير الفلسطينيين وسلبهم ارضهم وارزاقهم.
في غضون ذلك، برزت عدة مواقف سياسية في الساعات الاخيرة وأبرزها من الرئيس الاميركي دونالد ترامب الذي قال "إن على إسرائيل اتخاذ قرار بشأن الخطوات التالية في غزة"، مضيفًا أنه "لا يعلم ما سيحدث بعد انسحاب إسرائيل من مفاوضات وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن مع حركة "حماس". هذا وكان موفده الى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف أشار الى أن المفاوضات التي تعثرت بدأت تعود إلى مسارها، بحسب ما نقلت عنه شبكة "فوكس نيوز" التي ايضًا لفتت الى أن وزير الخارجية الاميركي ماركو روبيو "بشر" بتحقيق تقدم كبير في مفاوضات غزة، معربًا عن أمله في التوصل إلى وقف إطلاق نار يشمل الإفراج عن نصف "الرهائن" فورا، ثم الإفراج عن الباقين مع انتهاء مهلة الـ60 يومًا. وتستخدم واشنطن وتل ابيب اسلوب الضغط على "حماس" لدفعها الى التنازل والقبول بالشروط المطروحة عليها خاصة بعد تمسك الحركة ببعض النقاط خلال المفاوضات واهمها الانسحاب الاسرائيلي من الاماكن المأهولة بالسكان وتوزيع المساعدات الانسانية عبر المنظمات الدولية واطلاق سراح عدد اكبر من الاسرى الفلسطينيين ضمن صفقة التبادل.
وتدرك الحركة حجم المآساة التي يمر بها سكان القطاع وضرورة ان تقدم التنازلات لكي تحمي من تبقى من الفلسطينيين من "المحرقة الاسرائيلية" ولكنها، حتى الساعة، تستمر برفع سقف المواجهة حيث اشار رئيس حركة "حماس" في غزة، خليل الحية الى أنه "لا معنى لاستمرار المفاوضات تحت الحصار والإبادة والتجويع" لأطفال ونساء وأهالي قطاع غزة، مشيرًا إلى أن الحركة فوجئت بانسحاب إسرائيل من جولة المفاوضات الأخيرة في الدوحة والتي وضعها في اطار "الخطة المفضوحة المكشوفة" التي تهدف إلى "حرق الوقت" ومزيد من الإبادة للشعب الفلسطيني. هذا وكان المكتب الحكومي في غزة اشار الى تعرض عدد من شاحنات المساعدات الى "النهب والسرقة"، واضاف "شهدنا ثلاث عمليات إنزال جوي لم تعادل في مجموعها سوى شاحنتين من المساعدات، وقد سقطت حمولتها في مناطق قتال حمراء، وفق خرائط الاحتلال، يُمنع على المدنيين الوصول إليها، ما يجعلها بلا أي جدوى إنسانية".
وطالب المكتب كما غيره من المنظمات الدولية بفتح المعابر فورًا وانهاء الحصار وادخال المستلزمات الخاصة بالأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد والجوع وقد سقط من بينهم 87 طفلًا بسبب الحرب الدائرة في القطاع. هذه المستجدات دفعت بـ"الحوثيين" الى الاعلان عن تصعيد عملياتهم العسكرية ضد اسرائيل، وقال المتحدث العسكري باسم الجماعة يحيى سريع "إن المرحلة الرابعة التي أطلقتها الجماعة تشمل استهداف جميع السفن التابعة لأي شركة تتعامل مع موانئ العدو، وفي أي مكان يمكن الوصول إليه"، داعيًا "كافة الدول إلى أن عليها -إذا أرادت تجنب هذا التصعيد- الضغط على العدو لوقف عدوانه ورفع الحصار عن قطاع غزة، فلا يمكن لأي حر على هذه الأرض أن يقبل بما يجري".
في الشأن الايراني، تتكشف كل يوم تفاصيل جديدة حول الهجوم الذي شنته اسرائيل على طهران لمدة 12 يومًا. وفي هذ الاطار، كشف وزير الخارجية عباس عراقجي كواليس ما جرى خلال المفاوضات، لافتاً الى أن المجلس الأعلى للأمن القومي "اتخذ خلال اجتماع استثنائي في اليوم الثامن أو التاسع من المواجهة، قرارًا استراتيجيًا يقضي بالموافقة على الهدنة دون شروط مسبقة إذا تقدمت إسرائيل بطلب رسمي لذلك"، موضحًا أن القرار جاء "من موقع القوة". كما اعترف بتعرضه الى محاولة اغتيال حيث "وضعت قنبلة مقابل منزلي" و "لكن الأصدقاء (القوات الأمنية) سيطروا عليها".
دوليًا، توصلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى اتفاق تجاري بعد أسابيع من محادثات مكثفة بين الجانبين. وبموجب الاتفاق الذي وصفه الرئيس ترامب بأنه "أكبر اتفاق على الإطلاق"، سيتم فرض رسوم بنسبة 15 ٪ على سلع الاتحاد الأوروبي الواردة إلى الولايات المتحدة كما سيشمل استثمارات أوروبية بقيمة 600 مليار دولار داخل الولايات المتحدة. وسبق لقاء ترامب ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عدة محادثات بحثت في كيفية التوصل الى اتفاق بشأن الرسوم الجمركية التي تواجه قطاعات حيوية مثل السيارات والصلب والألمنيوم والأدوية. يُذكر أن ترامب سيلتقي أيضًا، اليوم الاثنين، رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، حيث سيحاول الأخير تسريع التوصل إلى اتفاق نهائي لخفض الرسوم الجمركية على الصلب البريطاني.
وفي جولة صباحية على الصحف العربية الصادرة اليوم، رصد لأهم ما ورد في مقالاتها وتحليلاتها:
رأت صحيفة "عكاظ" السعودية أن "صبر الغرب قبل غيره بدأ ينفد من سياسات نتنياهو، خاصة التجويع وقتل الأطفال الباحثين عن الحد الأدنى للزاد في غزة، ولم يعد يحتمل أي زعيم غربي ضغط الصور التي تبثها الشاشات، ويأتي اليوم تحرك مهم من فرنسا، حيث أعلن ماكرون الاعتراف بدولة فلسطين في الجمعية العمومية ايلول/ سبتمبر المقبل، مؤكدة أن "كل هذه الضغوط السياسية المتزايدة على إسرائيل، تمنح الفلسطينيين الفرصة الأخيرة ليبينوا للعالم أنهم موحدون نحو دولة جامعة لكل الفلسطينيين، ولا تمثل تهديدًا لإسرائيل كذلك، وتجنبًا لسيناريو قد يمثل الحلقة الأخيرة في مسلسل سنوات الفرص الضائعة".
هذا واعتبرت صحيفة "الأهرام" المصرية أن "الكيان الإسرائيلي ربح بمقدار ما خسرت إيران وحلفاؤها في "محور المقاومة"، ولكن هذا الكيان خسر أكثر على صعيد موقعه في المنطقة وصورته في العالم. فقد ازدادت عزلته الإقليمية ووصلت إلى مستوى لم تبلغ مثله في أي وقت منذ آخر السبعينيات عندما وُقعت المعاهدة المصرية ـ الإسرائيلية"، لافتة الى أن "نتنياهو يُمزَّق ما بقى من أوراق اتفاق أوسلو. ودلالة هذا كله، وغيره، أن التغيير الذى يحدثه الكيان الإسرائيلي في الشرق الأوسط يبعده عن تغييره بالمعنى الذي أراده وسعى إليه وحقق فيه نجاحًا جزئيًا عبر إقامة علاقات مع خمس دول عربية"، وفق تعبيرها.
وعن مفاوضات غزة، اشارت صحيفة "الغد" الاردنية الى ان "الخطوة الأميركية بالانسحاب قد لا تعدو، مجرد استعراض إعلامي، لتسريع المفاوضات، خاصة وأن المبعوث الأميركي مثل رئيسه سرعان ما يصاب بالملل من الدبلوماسية المتأنية، وجولات التفاوض". واضافت "المرجح وفق، مراقبين، أن تصريحات ترامب وويتكوف عن الانسحاب من المفاوضات، مجرد كلام يتطاير في الهواء مثل كثير من تصريحات ترامب التي لا تتوقف على مدار الساعة. وأن المفاوضين سيعودون إلى الدوحة من جديد، هذا إن غادروها أصلا".
وكتبت صحيفة "الجريدة" الكويتية "الضغوط ستتزايد على المسؤولين اللبنانيين لوضعهم أمام مسؤولية اتخاذ قرار، وما تريده القوى الدولية هو أن يُتخذ هذا القرار من مجلس الوزراء، أي فرض عقد جلسة حكومية يكون ملف السلاح مدرجًا على جدول أعمالها، وتتخذ قرارًا واضحًا بشأن سحبه من كل المجموعات والأحزاب وحصره بيد الدولة اللبنانية". وأردفت قائلة "حتى لو حصل ذلك يبقى التحدي الأكبر هو الآلية التنفيذية التي سيتم اتباعها، وكيف سيتحقق ذلك، وإذا كان بإمكان تحقيق هذا الهدف طالما أن "حزب الله" يرفض البحث بسحب السلاح قبل الحصول على الضمانات اللازمة".
في سياق اخر، شددت صحيفة "الصباح" العراقية ان "سوريا اليوم تقف على مفترق طرق حاسم، قد يقودها إلى سيناريوهات متعددة: من التقسيم الفعلي إلى دولة لامركزية ضعيفة محكومة بالنفوذ الخارجي، أو إلى إعادة إنتاج دولة مركزية هشة تُدار بـ"الوكالة" عن قوى دولية وإقليمية متنافسة"، منبهة الى أنه "في ظل غياب مشروع سياسي وطني متماسك، ورفض الأطراف المتصارعة تقديم تنازلات مؤسِّسة لدولة جديدة، يبدو أن مصير سوريا سيُحسم في غرف السياسات الدولية لا في صناديق الاقتراع أو مؤتمرات المصالحة"، بحسب وصفها.
(رصد "عروبة 22")