خريطة النعمة وخريطة النقمة!

إذا كان الأمير هاملت قد واجه سؤالا وجودياً في رائعة شكسبير: أكون أو لا أكون، تلك هي المعضلة، وحين فشل في الإجابة الصحيحة قاد نفسه وأحبابه إلى الخراب والموت، فهل خطرت مثل هذه العبارة على عقول العرب: رجال ثقافة وسياسة أو بشرا عاديين على باب الله، وهم يتابعون ما يحدث في منطقتهم من تمزيق وعدوان ودمار وقتل وجرائم حرب؟هل حاولوا أن يفهموه على حقيقته دون خداع وأكاذيب وأحكام مسبقة وصراعات متوارثة، ويسألوا أنفسهم: ما هو مستقبل المنطقة التي نعيش فيها في ظل هذه الأحداث؟

لا أظنهم فعلوا..ربما انشغل كل منهم "بضمان" أمنه المباشر، في مكانه القابع فيه دون بقية المنطقة، وتصور أنه بذلك يحافظ على سلامته ومجتمعه، من هذه النيران المشتعلة في الجوار، فلسنا الذين أشعلناها، وليتحملها الذين ارتكبوا الخطايا التي أدت إلى اندلاعها.

نعم.. إسرائيل هي التي تعيد ترتيب أوراق المنطقة وشكل مستقبلها، وخلفها، أو بمعنى أدق أمامها، تكتل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.. نعم ..إيران أيضا تفعلها، بتنظيمات عربية منتمية لها أكثر من انتمائها إلى عالمها العربي، ودون استشارة مواطنيها المخالفين لها سياسيا والمختلفين معها دينياً.

لكن معظم العرب مجرد رد فعل، يحاولون فرادى تقليل الخسائر، ولملمة الجراح، والإمساك بغصن زيتون أحرقه العدو الإسرائيلي مئات المرات، فلم يبق منه إلا أوراق هشة لا تستر العورة، تلعب بها الولايات المتحدة مع العرب كالحواة والنصابين، ليؤمنوا بأن العود مازال أخضر يانعا وسوف يطرح رخاء لهم!

لم يحاول العرب حتى فى جهود الإسعافات الأولية، أن يجتمعوا معا في كتلة واحدة، ويفكروا معا، ويضعوا "بديلا" يتبنونه ويدفعون به إلى الساحة الدولية، ويتفاوضون عليه، متجاوزين كل التناقضات التي اشتعلت بينهم وتلبستهم عشرات السنين، ثم توحشت مع غزو صدام حسين للكويت في كارثة مازالت تداعياتها تفرقهم حتى الآن، ولم يخفف منها اختفاء صدام حسين من المشهد المأساوي. نعم، إسرائيل ترسم الخريطة الجديدة لدول المنطقة، وعرضها نيتانياهو، رئيس وزرائها مرتين على الجمعية العامة للأمم المتحدة بفارق عام، وتقتل بكل ترسانتها العسكرية لكي تحولها إلى واقع.

في الأول عرضها متفائلاً متباهياً بأن حلم إسرائيل بات قاب قوسين أو أدنى من ملء سماء العالم العربي، وأن العرب يباركون هذا الحلم، كأنه حلمهم، مع أن الوزير المتطرف بتسلئيل سموتريتش عرض في باريس خريطة أخرى لإسرائيل، تضم كل الأردن وكل الأرض الفلسطينية، وقال: لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني!

فى الثاني: عرض الخريطة قبل تسعة أيام متشحة بالسواد في لبنان وسوريا والعراق واليمن تحت عنوان "خريطة النقمة"، وراح يهاجم إيران ويتعهد أمام المجتمع الدولي بأنه سيمضي فى الحرب والقتل في غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان واليمن دفاعا عن الخريطة "النعمة"، التي تربط برياً بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، مع أن قناة السويس تفعلها وتربط المحيط بالبحر منذ أكثر من 150 سنة!

لا تهم النعمة أو النقمة الإسرائيلية، فكلاهما كائن مشوه في رحم إسرائيل، وفي عقل من يتوهم أن إسرائيل هي "ضمان أمنه"، وضمان الأمن بالعدو هي الفكرة التي مزقت العرب ونمت عليها الحروب الصليبية الأولى ما يقرب من 300 سنة، لكن النقمة الفعلية هي غياب العرب الجماعي عن تخطيط مستقبل عالمهم، فمن المستحيل أن يكون تصوراً فردياً، لدولة أو جماعة أو تنظيم، بل هو تصور جمعي، سبق وعاشت عليه المنطقة قرونا طويلة، صحيح تخللتها عثرات وانكسارات وتمزقات بفعل "العدوان الخارجي"، لكن سرعان ما تعود إلى نظامها الأمني الموحد، الذي صنعته علاقات التاريخ والجغرافيا والثقافة والدين. في ظل هذا الغياب يحلق سؤال له نصل رمح متجهة إلى سويداء القلب والعقل: هل قارب العرب على نهاية التاريخ؟

ونهاية التاريخ لا تعني انقراض العرب أو اختفاء دولهم، على العكس قد يزداد عدد هذه الدول، ولا تعني أيضا فقدان العرب لإمكاناتهم وطاقاتهم، وإنما ثبات الحالة العامة التي هم عليها في المنطقة الواسعة الممتدة من شرق المحيط الأطلنطى إلى غرب الخليج العربي، أي بقاء العرب في مربعات الفرقة والانقسام والخلافات والاضطرابات والارتباك، تحت رعاية الغرب باهتمام بالغ وصرامة فائقة، على أن يترك لهم حرية الحركة داخل تلك المربعات كل حسب اجتهاده، دون أن يخرج منها!

راجعوا تاريخ الاعتداءات الغربية الحديثة على المنطقة العربية منذ حملة نابليون على مصر والشام إلى ضرب لبنان الآن، ودعوكم من التفاصيل المملة والأسباب الصغيرة المعلنة، وركزوا على الأهداف الإستراتيجية، فالتفاصيل الصغيرة فيها من الذرائع والحجج أكثر من الحقائق الكبرى!

لا يمكن فصل ما يحدث الآن عما حدث منذ غزو أمريكا للعراق وتقسيمه، وأحداث الربيع العربي، كما وصفها الغرب ضحكاً على الذقون، وهو ربيع لم ينتج زهوراً بقدر ما أنتج دماء واضطرابات وصراعات وتفتيت دول، وقطعاً ثورات الشعوب حق من أجل مستقبل أفضل، لكن الولايات المتحدة عملت على دفعها إلى "الفوضى الخلاقة"، فانتهت إلى تقسيم سوريا والسودان واليمن..الخ.

المدهش أن كثير من العرب لعبوا الدور الأبرز في هذه الكوارث، إذ سمحوا للتناقضات التاريخية والدينية المتوارثة أن تتحكم في قراراتهم وتصرفاتهم، متجاهلين عمداً "المصالح الإستراتيجية" العليا، حتى إنهم استجابوا إلى دعوة "الإبراهيمية"، وهي دين جديد اخترعته الولايات المتحدة، ووصف إسحاق هرتسوج رئيس إسرائيل الأمر: تحالفات مع أصدقاء! والسؤال: هل يستطيع العرب أن يتجاوزوا تناقضاتهم أم يمضوا إلى نهاية التاريخ المرسوم في خريطة النعمة؟.

(الأهرام المصرية)

يتم التصفح الآن