كان تقديره وهو يتعرض للأحوال اللبنانية منذ استقلال البلاد في ١٩٤٣، أنّ الوضع اللبناني معقد في العموم، وأنه وضع يتداخل فيه المحلي مع العربي مع الإقليمي مع الدولي، وبكل ما يؤدي إليه مثل هذا التعقد من تشابك وصعوبات.
كان رأيه أنّ لبنان يشبه بناية من طوابق أربعة: طابق يسكنه اللبنانيون، وآخر يسكنه العرب، وثالث يسكنه الإقليميون من أصحاب النفوذ السياسي في البلد، ورابع يسكنه الدوليون ممن ترتبط مصالحهم بطبيعة الوضع في الأراضي اللبنانية.
لبنان في حاجة إلى حضور عاجل للتوافق الغائب في مواجهة عدوان أعمى لحكومة التطرف الإسرائيلية
والحاصل أنّ الدنيا كانت تهدأ في بيروت كلما نجح المقيمون في الطوابق الأربعة في التوافق فيما بينهم، وكانت الأوضاع تتأجج كلما غاب عنهم التوافق، أو كلما حاول كل طرف منهم أن يتجاهل بقية الأطراف فلا يضعهم في الحساب أو في الاعتبار.
وإذا أردنا مثالًا عمليًا على صواب هذه النظرية، فيمكن النظر إلى "حزب الله" في جنوب لبنان على أنه واحد من تجليات النفوذ الإيراني الإقليمي في لبنان، ثم بالطبع في المنطقة امتدادًا من الجنوب، وانطلاقًا من الضاحية التي يتمركز فيها الحزب منذ أن نشأ، ومنذ أن كان له وجود سواء كان وجودًا سياسيًا في الداخل اللبناني على مستوى البرلمان والحكومة، أو كان وجودًا مقاومًا لإسرائيل في كل عدوان لها على أراضي الجوار.
كان الحزب يشغل الطابق الإقليمي الثالث ضمن أطراف إقليمية أخرى تشغل الطابق نفسه مع الطرف الإيراني، ولكنه من موقعه ذاك كان مدعوًا باستمرار لأن يتوافق مع بقية اللبنانيين الذين يقيمون في الطابق الأول، ومع العرب الذي يسكنون الطابق الثاني بحكم الانتماء العربي للبنان، وكذلك كان مدعوًا من خلال طهران إلى التوافق مع الأطراف الدولية التي تسكن الطابق الرابع وتطل منه على بقية الطوابق الثلاثة من فوق.
كان للحزب وجهان يخرج بهما على الناس في كل الأوقات "وجه سياسي مشارك مع بقية القوى السياسية في داخل البلاد، ثم وجه مقاوم يتجه به إلى كل ما هو إسرائيلي ممارس للعدوان، ولم يكن هناك خلاف كبير معه حول دوره المقاوم، ولكن الخلاف الأكبر معه كان على الدور السياسي، وبمعنى أدق على طبيعة وحدود هذا الدور.
فليس سرًا أنّ البلاد تعيش بلا رئيس منذ أن غادر الرئيس ميشال عون قصر بعبدا قبل أكثر من عامين، والسبب ليس أنّ البلاد تخلو ممن يصلحون لشغل الموقع الرئاسي، ففيها كثيرون يصلحون عن جدارة دون شك، ولكن المشكلة كانت دائمًا في أنّ الحزب يمتنع عن التوافق المطلوب لاختيار الرئيس كلما حلّ موعد جديد للاختيار.
انقضى ما يزيد على العامين، بينما القصر شاغر ينتظر مَنْ يشغله، وينتظر أن يقدّم الحزب الصالح العام للبلاد على كل ما عداه.
كان في مقدور ساكن بعبدا الجديد أن يدخله في اليوم التالي مباشرةً لمغادرة الرئيس عون، لو أنّ نواب "حزب الله" في مجلس النواب توافقوا مع بقية القوى السياسية، ولكن لأن ذلك لم يقع فإنّ المجلس قد انعقد أكثر من مرة بهدف اختيار رئيس جديد، وكان الاجتماع يتأجل في كل مرة، وكان عدم توافق الحزب أو عدم استعداده للتوافق هو السبب.
لبنان أصلٌ و"حزب الله" فرع فلا وزن للفرع بدون حيوية الأصل
وإذا كان لبنان في حاجة إلى شيء هذه الأيام، وهو يواجه محنته الحالية في مواجهة عدوان أعمى لحكومة التطرف الإسرائيلية على أرضه وسيادته، فهو في حاجة إلى حضور عاجل للتوافق الغائب من ساكن الطابق الثالث الذي كان عليه أن يسكن الطابق الأول، لولا أنّ علاقته التي لا يخفيها بإيران ولا تخفيها هي، قد جاءت به إلى طابقه الحالي.
ولو شاء "حزب الله" أن يخرج بالدرس الأهم من العدوان الإسرائيلي الأعمى على لبنان، فالدرس أنّ التوافق الذي يغيب من جانبه كحزب لا بد أن يحضر بغير تأخير. ففي حضور هذا التوافق قوة للحزب، ثم إنّ فيه قوة للبنان قبل الحزب، ولأنّ لبنان أصلٌ والحزب فرع، فلا وزن للفرع بدون حيوية الأصل، ولا حيوية للأصل إلا بتوافق غاب أكثر من سنتين في قضية شغور القصر ولا يزال.
(خاص "عروبة 22")