ربما يكون السؤال الذي يجب أن نطرحه هو ما الجديد في هذا التصريح الذي يذكّرنا بالتهديدات القولية والعملية "الهتلرية" التي تتعلق بتغيير خارطة القارة الأوروبية عشية وإبان الحرب العالمية الثانية نهاية العقد الرابع من القرن العشرين؟.
"المطاطية الجغرافية" مكنت القوى الاستعمارية والعظمى من الهيمنة على مقدرات شعوب المنطقة وضمان أمن إسرائيل
واقع الحال، أنه لا جديد فيما طرح، فالحديث عن شرق أوسط مغاير أو مختلف - كبير أو جديد -، يتمحور حول إسرائيل، هو حلم تاريخي. فالشرق الأوسط، تاريخيًا، تم تصميمه من قبل القوى الاستعمارية الكلاسيكية (بريطانيا وفرنسا) بهدف استدامة تقاسم النفوذ والثروة. فالرقعة الجغرافية التي سميت بالشرق الأوسط لا تستند في حقيقة الأمر، حسب ساطع الحصري، إلى "أُسُس ثابتة من الجغرافيا الطبيعية أو البشرية، إنما هي تقسيمات اعتبارية"، وصفناها قبلًا بـ"المطاطية الجغرافية"؛ تلك المطاطية التي مكنت القوى الاستعمارية التاريخية، والقوى العظمى ما بعد الحرب العالمية الثانية، من أن تحظى باستدامة الهيمنة على الثروة ومقدرات شعوب المنطقة من جهة أولى، وتأبيد ضخ الثروة من جهة ثانية، وضمان أمن إسرائيل من جهة ثالثة.
إنها الهيمنة التي كان رأس حربتها إسرائيل منذ الوعد المشؤوم في 1917، والوفاء به في 29 نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 1947 يوم وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع تقسيم فلسطين. إلى دولتين (يهودية وعربية)، بيد أنه وفي 14 مايو/أيار سنة 1948 أعلن قادة المجلس القومي اليهودي من طرف واحد قيام دولة إسرائيل.
جرى هذا والجمعية العامة ما زالت منعقدة في دورة استثنائية تناقش فيها مستقبل فلسطين. ففي هذه الأثناء صدر الإعلان الخاص باستقلال إسرائيل لا يتضمن – قط - حدودها؛ إذ ترك هذا الأمر مفتوحًا لما سيأتي به "فعل قوة السلاح"، حسب أحد المؤرخين، انطلاقًا مما كتبه هرتزل في يومياته حول "عقيدة العمل على اتساع رقعة الأرض". كذلك "بن جوريون" في المقدمة التي كتبها لتتصدر الكتاب السنوي لحكومة إسرائيل سنة 1952 والتي جاء فيها أنّ "دولة إسرائيل قد قامت فوق جزء من أرض إسرائيل.. ولا ينبغي القبول بفرضية وجود حدود تاريخية وطبيعية ثابتة للدولة، فالحدود تتغيّر وفق تغيّر الظروف والمراحل الزمنية المختلفة. ولذا لا بد من إعادة النظر في مصطلح حدود طبيعية".
وينطلق "بن جوريون" عن قناعة بأنّ "الظروف قد تجبر الدولة على إعادة النظر مرة أخرى (مرات) في تعيين حدودها الطبيعية واستبدال حدود جديدة بها كلما دعت الضرورة".
إنها عقيدة التوسع؛ التي تحكم علاقة كيان الاحتلال بالمنطقة. تلك العقيدة التي تجلت في حرب 1967 فيما ترتب عليها من احتلال الأراضي العربية في سيناء، والجولان، والضفة الغربية، وغزّة. إذ يقول عبد الوهاب المسيري إنّ هذا التوسع الاحتلالي "شكّل منعطفًا بارزًا في تاريخ التوسع الصهيوني".
شجع ما جرى في 1967 إسرائيل على المضي قدمًا من أجل المزيد من التوسع خاصة بعد حرب 1973 التي عطلت التوسع من جهة، وكشفت عن إمكانية الحشد العربي عسكريًا واقتصاديًا وذلك باستخدام سلاح النفط. وعليه عملت إسرائيل على ما يلي:
أولًا: إعداد استراتيجية مطلع الثمانينيات - نشرت سنة 1982 - مفادها إعادة رسم خريطة المنطقة من جديد بما يكفل هيمنتها المطلقة عليها. وذلك عن طريق تفتيت دول المنطقة إلى دويلات عنصرية وطائفية وعرقية تكون في حالة صراعية. في هذا السياق، حرصت إسرائيل أن تُفطم من كونها امتدادًا أو رأس حربة للولايات المتحدة الأمريكية، إذ أدركت أنه مع انطلاق قطار السلام الوهمي، وتحوّل ميزان القوة في الإقليم لصالح "السلاميين"، أنها قادرة - بل مجبرة لتحقيق عقيدة التوسع - على الاضطلاع بمهامها الإقليمية "على مسؤوليتها" حسب تعبير أحد الرؤساء الأمريكيين. وعليه انطلقت إسرائيل تتوسع في الداخل الفلسطيني المحتل تحت مظلة اتفاقيات السلام من خلال مصادرة الأراضي. كذلك خارجها متى سنح الظرف الإقليمي/الدولي.
الخلاصة، إنّ ما أعلنه رئيس وزراء الكيان المحتل ما هو إلا محطة في مسار قطار التوسع الذي انطلق منذ قبل منتصف القرن العشرين ولم يتوقف قط – بعد -.
"فراغ القوة" يتم ملؤه من قبل "الثكنة الإسرائيلية" كقوة إقليمية مدعومة بالأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية
وفي هذا المقام، يشير أحد البرلمانيين الإسرائيليين إلى أنّ "التوسع الصهيوني لن يتوقف ما دام هناك فراغ بسبب الغياب العربي"، ومن ثم يتنبأ بأنّ هذا "التوسع سيستمر حتى يتخطى حدود إسرائيل الكبرى نفسها متى سنحت الفرصة". أي أنّ القوة الذاتية الصهيونية - لا الأوهام العقائدية - هي المحرك الأساسي في توجيه التوسعية الصهيونية. فما يدفع الصهاينة ويقرر حركتهم، يقول أحد السياسيين، ليس الدافع العقائدي وإنما موازين القوى وحسب. فإسرائيل ومن خلفها الوسيط غير العادل الذي منحناه مجانًا أن يمتلك 99% من أوراق اللعبة لعقود - الولايات المتحدة - قبلوا بإطلاق عملية السلام نهاية الثمانينيات في مدريد التي لم تكن في حقيقتها إلا محاولة لوأد القضية الفلسطينية، ومنع أي حديث عن الملفات العالقة بها مثل: ملف اللاجئين، وملف الحدود، وملف القدس.. إلخ. وتقسيم الإقليم إلى فريقين: "المقاومون" من ناحية، و"السلاميون" من ناحية أخرى؛ حيث يتم عزل - ومتى أمكن - حصار وعزل هؤلاء "المقاومين" في إسرائيل الكبرى جغرافيًا. وفي الوقت نفسه دمج "السلاميين" في إسرائيل العظمى اقتصاديًا. وبالأخير إحداث ما بات يُعرف في الأدبيات بـ"فراغ القوة" حتى يتم ملؤه من قبل "الثكنة الإسرائيلية" كقوة إقليمية، مدعومة بالأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية.
إنّ التهديد الذي أطلق ولوّح بأنّ يد إسرائيل يمكنها أن تطول ما من شأنه تعطيل توسعها الجغرافي وتعاظمها الاقتصادي يحتاج إلى الكثير من المراجعات.
(خاص "عروبة 22")