رفض ناصر سياسة الأحلاف العسكرية التي نظرت إلى المنطقة كساحة فارغة يجب ملؤها بالنفوذ الأجنبي. أسقط حلف الدفاع عن الشرق الأوسط بقيادة الولايات المتحدة الصاعدة إلى موقع الهيمنة العالمية، ثم حلف بغداد بقيادة بريطانيا، الإمبراطورية النازلة من ذلك الموقع، وصولًا إلى تأميم قناة السويس وحربها التي أفضت ملابساتها إلى نهاية الاستعمار التقليدي، وإطلاق ديناميكية عصر التحرر القومي.
انتهى ذلك العصر سريعًا بهزيمة يونيو/حزيران 1967، التي لم يفلح نصر أكتوبر/تشرين الأول 1973 في تجاوز آثارها، خاصة وقد انكفأت مصر على نفسها واشتعل الصراع على وراثة دورها إبان مرحلة القطيعة العربية معها لنحو العقد (1978 - 1988) وبالذات بين صدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد.
كررت الولايات المتحدة طرح مشروع الشرق الأوسط الجديد في صيغ مختلفة ظل جوهرها هو تمكين إسرائيل من الهيمنة
مع الحرب العراقية الإيرانية، ثم الغزو العراقي للكويت، تأكد للجميع صعوبة وراثة الدور المصري لكن مصر نفسها، ورغم مشاركتها في تحرير الكويت، لم تعد راغبة أو ربما قادرة على استعادة دورها لعوامل كثيرة نالت من موارد قوتها الشاملة. في ظل ترددها، وعجز الآخرين باتت المنطقة خواء من الأفكار والمشروعات القومية، وعادت من جديد منطقة رخوة، تزخر فقط بحركات الجهاد والمقاومة من كل صنف، وتجذب ليس فقط أقطاب العالم كزمن الحرب الباردة، بل أيضًا أقطاب الإقليم، باعتبارها نقطة انطلاق لزيادة نفوذهم السياسي وربما توسعهم الجغرافي.
وقد ازداد الأمر تعقيدًا حينما تداخل الدولي مع الإقليمي، حيث كررت الولايات المتحدة طرح مشروع الشرق الأوسط الجديد في صيغ مختلفة تتفق ومزاج قادتها، لكن ظل جوهرها هو تمكين إسرائيل من موقع الهيمنة السياسية والعسكرية بعد أن جرى تمكينها اقتصاديًا وتجاريًا عبر اتفاقات التطبيع الإبراهيمية.
بمجيء الرئيس جو بايدن طُرحت فكرة الناتو العربي، المفترض أنه تحالف يضم إسرائيل مع دول الاعتدال العربي/السنّي الذي يضم مصر والأردن مع دول الخليج في مواجهة إيران ومحور المقاومة الشيعي. وفي المقابل سعت إيران إلى تدعيم تحالفاتها مع الصين وروسيا، وتعاونها البرجماتي مع الجار التركي، لتقع المنطقة في أسر التحالفات المتضادة التي أودت بها إلى الاحتراق.
ورغم أنّ فكرة الناتو العربي لم تُدشن بشكل علني، فإنّ ممارستها العملية بدت واضحة منذ اندلع طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. لقد اعتبرت "حماس"، وهي محقة، أنّ هجومها البدئي على مستوطنات غلاف القطاع نوعًا من المقاومة الوطنية لعدو غاصب، فرض على قطاع غزّة حصارًا كاملًا، يكاد يجعل منه سجنًا كبيرًا، ولا يتوقف عما أسماه الكاتب اليهودي نورمان فنكلشتاين "جز العشب"، أي تدمير موارد القطاع واستهداف شبابه المناضل بين الحين والآخر دونما سند قانوني أو رادع أخلاقي. ناهيك عما يقوم به الإسرائيليون من خروقات لم تتوقف قط لحرمة المسجد الأقصى، واعتداءات على المقدسيين، وأهل الضفة الغربية، الخاضعين لسلطة رام الله المفترض أنها نواة لدولة تأخر إعلانها، بحسب اتفاق أوسلو نفسه.
فكرة الناتو العربي قيد الممارسة العملية وإن لم تتجسد نظريًا في أطر قانونية أو تنظيمية
هذا الذي تصورته "حماس" يعكس في العموم تصورات محور المقاومة كله. أما محور الاعتدال، فسلك على أساس أنّ "حماس" أخطأت الحسابات وورطت نفسها في صراع يفوق قدراتها، وأنّ عليها تحمل نتائج خيارها، خصوصًا من قوة نيران العسكرية الإسرائيلية. ورغم أنّ هذا المحور لم يتماهَ مع الخطاب الإسرائيلي، وأنّ بعض أطرافه قاموا بوساطة متكررة أملًا في عقد صفقة توقف إطلاق النار وتجنب المنطقة الحرب الإقليمية، فإنه لم يفرز أية ضغوط سياسية فعالة على إسرائيل، ومن ثم فشل في تقديم أية بدائل سياسية للخروج من المأزق.
هكذا تبدو فكرة الناتو العربي قيد الممارسة العملية وإن لم تتجسد نظريًا في أطر قانونية أو تنظيمية، فالغرب الأورو/أمريكي، أخذ دور المبادرة بتقديم الدعم الشامل لإسرائيل، والذي بلغت قيمته من أمريكا وحدها خمسة وعشرين مليارًا من الدولارات أنفقت جميعها على صفقات السلاح من كل نوع، وضمنها القنابل زنة الطن التي جرى بها اغتيال حسن نصر الله، وضرب خليفته هاشم صفي الدين. أما إسرائيل، بغطرسة القوة وأوهامها، فاندفعت إلى الجبهة اللبنانية بعد عام كامل من حرب الإبادة على غزّة. فيما اتخذ محور الاعتدال موقف المتفرج، لا تصدر عنه سوى تصريحات دبلوماسية، تصلح لمعالجة قضية سياسية في أمريكا الجنوبية، وليس صراعًا ملتهبًا في جوف المنطقة.
فما هو الناتو العربي، إن لم يكن هو ذلك الفراغ السياسي والعجز الاستراتيجي المحيط بنا؟.
(خاص "عروبة 22")