إن التحولات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط تفرض تحديات كبرى في مجال الأمن الإقليمي، ولكنها في الوقت نفسه تفتح آفاقاً جديدة للتعاون والحلول السياسية، إذ إن تحسن العلاقات بين القوى الإقليمية الكبرى مثل إيران والسعودية، إلى جانب الدور المتنامي للصين، قد يكون مؤشراً إيجابياً على بداية مرحلة جديدة من التوازن والاستقرار.
في منظور أوسع من تداعيات الحرب على غزة وجنوب لبنان، شهدت منطقة الشرق الأوسط في المرحلة الأخيرة تحولات جيوسياسية كبرى أدت إلى تغييرات جذرية في خريطة التحالفات والصراعات الإقليمية، مما أثر بشكل مباشر على الأمن والاستقرار في المنطقة. لقد جاءت هذه التغيرات نتيجة تفاعلات معقدة بين عوامل داخلية وإقليمية ودولية، حيث أصبحت دول المنطقة أمام واقع جديد يتماشى مع محاولة قوى دولية مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا إعادة تموضعها الإقليمي والدولي في ظل صراعات دامية مستجدة ومنافسات اقتصادية محتدمة.
تُعتبر العلاقات الإيرانية - السعودية إحدى أبرز المحاور التي تعكس هذه التحولات الجيوسياسية، فبعد سنوات من التوترات السياسية والعسكرية، شهدت نهاية عام 2023 انفراجة غير متوقعة بفضل الوساطة الصينية التي قادت إلى توقيع اتفاقية مصالحة تاريخية بين البلدين في إطار سعي كل منهما الى تعزيز الاستقرار الإقليمي وتحقيق مصالح اقتصادية خاصة ومشتركة.
ورغم هذا التحول الايجابي، تشير التقارير الصادرة عن "معهد الدراسات الاستراتيجية" في يوليو 2024 إلى أن هذه المصالحة، رغم أهميتها، لن تكون كافية بمفردها لضمان السلام في المنطقة دون معالجة أعمق للجذور الجيوسياسية للصراعات ولاسيما في اليمن وسورية ولبنان. يأتي ذلك في ظل التحول الواضح في السياسة الأميركية حيال ملفات الشرق الأوسط، إذ منذ تولي الرئيس بايدن الإدارة في واشنطن، وبعد عقود من ارتباط السياسة الأميركية في منطقتنا بمحاولة السيطرة على النفط الخليجي، خففت الولايات المتحدة من وتيرة وحجم تدخلاتها العسكرية في المنطقة ووجهت اهتمامها نحو آسيا لمواجهة التنين الصيني الذي يسعى إلى لعب دور أكبر في المنطقة من خلال تبني سياسات أكثر نشاطاً في الشرق الأوسط بهدف تعزيز النفوذ الاقتصادي والسياسي.
وقد تجلت السياسة الصينية المستجدة في مبادرة "الحزام والطريق" وفي الوساطة التي قامت بها بين إيران والسعودية، بمحاولة استراتيجية الأبعاد من قبل بكين لملء الفراغ الجزئي الذي تركه التراجع التكتيكي للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة.
وبالرغم مما قد يبدو من إيجابيات في هذه التحولات الدولية والإقليمية، فإن التحديات الأمنية لا تزال قائمة، فالنزاع العربي-الإسرائيلي ما زالت نيرانه حامية الوطيس في غزّة وجنوب لبنان، وما زال المحور الشرقي يناكف المحور الغربي في اليمن وسورية والعراق، وما زالت التوترات الطائفية والسياسية حاضرة في كثير من بلدان المنطقة، فضلاً عن التهديد المستمر لخطوط الإمداد البحري في مياه البحر الأحمر والخليج العربي، دون أن ننسى التداعيات غير المباشرة للمواجهة المحتدمة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي على الأراضي الأوكرانية.
هذه النزاعات، بالإضافة إلى تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية المستمرة، يضع منطقتنا في حالة انعدام التوازن وعدم استقرار، الأمر الذي يضيء على حقيقة مهمة مفادها أنه من الصعب تحقيق استقرار إقليمي فعال دون حلول شاملة للأزمات الراهنة وتعاون اقليمي جدّي وتعزيز آليات الحوار السياسي اقليمياً ودولياً، ناهيك عن أهمية تعزيز التعاون الاقتصادي والدخول في شراكات مستدامة في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتجارة، وهو ما قد يساهم في استقرار الأسواق المالية وتعزيز معدلات النمو الاقتصادي.
من جانب متصل، ومع اقتراب الانتخابات الأميركية المرتقبة، يبرز سؤال حيوي حول تأثير نتائج هذه الانتخابات على مستقبل منطقة الشرق الأوسط، فقد كانت السياسات الأميركية، منذ عقود، عاملاً أساسياً في تحديد معالم الأمن الإقليمي من خلال التدخلات العسكرية أو التحالفات الاقتصادية والسياسية، ومن المتوقع أن تكون نتائج الانتخابات القادمة محوراً لتغيرات جذرية قد تعيد رسم خريطة المنطقة من جديد.
ففي حال فوز إدارة جديدة تختلف في توجهاتها عن الإدارة الحالية، قد تشهد المنطقة تغيرات فيما يتعلق بقضايا الطاقة والأمن والتعاون الاقتصادي، مع محاولة جدّية لاستعادة جزء من الدور الأميركي التقليدي. فمن المتوقع أن تضع الإدارة الجديدة في واشنطن ملفات حيوية على رأس أجندتها، مثل العلاقات مع إيران وملفها النووي، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على أمن الخليج والتحالفات التقليدية بين دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة، وذلك تحت وطأة الاتجاه الواضح والاستعداد البيّن لبعض دول المنطقة لتوسيع الشراكة مع الصين وروسيا في حال استمرار تراجع الدور الأميركي أو تحوله لصالح الوجهة الإيرانية.
على صعيد آخر، ستكون نتائج الانتخابات الأميركية مؤثرة على مسار التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية، فالإدارة الحالية دعمت بقوة ما يعرف باتفاقيات إبراهيم التي مهدت الطريق لتطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية مثل الإمارات والبحرين والمغرب، في حين ساهمت الحرب على غزة وجنوب لبنان في تخفيض قوة دفعها وربما تجميدها. فبعد خمود نار الحرب، قد تسعى الإدارة الجديدة إلى تعزيز هذه الاتفاقيات أو إعادة تقييمها بما يتناسب مع أولوياتها الاستراتيجية، وفي جميع الأحوال، ستبقى العلاقات الإسرائيلية-العربية عنصراً محورياً في رسم خريطة التحالفات الإقليمية.
اقتصادياً، سيظل الشرق الأوسط يواجه تحديات كبرى مرتبطة بالأزمات المالية العالمية والتغيرات المناخية، وهي عوامل قد تستمر في التأثير على استقرار المنطقة بعد الانتخابات الأميركية، فالإدارة الأميركية الجديدة قد تسعى إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري مع دول المنطقة، لا سيما في مجالات تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني والطاقة المتجددة ومكافحة التغير المناخي.
في الخلاصة، يمكن القول إن التحولات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط تفرض تحديات كبرى في مجال الأمن الإقليمي، ولكنها في الوقت نفسه تفتح آفاقاً جديدة للتعاون والحلول السياسية، إذ إن تحسن العلاقات بين القوى الإقليمية الكبرى مثل إيران والسعودية، إلى جانب الدور المتنامي للصين، قد يكون مؤشراً إيجابياً على بداية مرحلة جديدة من التوازن والاستقرار، مما يتطلب جهوداً حثيثة ومستمرة من كل الأطراف الإقليمية والدولية، مع التركيز على تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي وحل النزاعات بالطرق السلمية.
(الجريدة الكويتية)