ثقافة

المنظومة التعليمية في تونس: صعوبات وإكراهات (2/3)

توقفنا في المقال السابق عند أهم محطات إصلاح المنظومة التعليمية في تونس، انطلاقًا من حقبة الاستقلال، فالعقود التي عرفت إطلاق عدة مشاريع إصلاحية، لم تسلم من صعوبات وإكراهات أفضت إلى ظهور أزمات موزعة على عدة أمثلة، لعلّ أهمها ظاهرة الانقطاع المدرسي المجسّدة في الرسوب والإخفاق.

المنظومة التعليمية في تونس: صعوبات وإكراهات (2/3)

واضح أنّ أسباب هذه الظاهرة الخطيرة ذات صلة بعدّة عوامل منها الصعوبات الاقتصادية العائلية (الفقر وعدم الاستقرار، وضعف التحصيل العلمي وعدم متابعة الأبناء)، ومنها أيضًا المردود الدراسي وضعف الرغبة في الدراسة وغياب الحوافز للتعليم وغياب الأنشطة التحفيزية أو الترفيهية. وعادة ما ترتفع هذه النسبة في الأرياف وفي الأحياء الشعبية المحيطة بالمدن الكبرى. كما يتولد عن تراجع جودة التعليم في المدارس العمومية التونسية عدة ارتدادات خطيرة.

تراجع الانفاق الحكومي على التربية والتعليم الذي عرف انخفاضًا حادًا خلال الفترة الممتدة بين عامي 2010 و2023

من بين أزمات التعليم التونسي أيضًا، نجد تفاقم ظاهرة العنف بمختلف أشكالها ومضامينها المختلفة (اللفظي والجسدي والرمزي والتنمر والتحرش) في المؤسّسات التربوية سواء ضد الإطار التربوي أو ضد التلاميذ في ما بينهم. وتفيد معطيات وزارة التربية (إحصائيات الوزارة إلى حدود أكتوبر/تشرين الأول 2022)، ويسجّل الوسط المدرسي سنويًا بين 13 ألفًا و21 ألف حالة عنف في المدارس الإعدادية والمعاهد، وتتراوح هذه النسبة بين 1.7 و2 بالمائة، وهي ظاهرة تبدو عامة تعود أيضًا لعوامل فيزيولوجية ونفسية واجتماعية، من قبيل التنشئة ووضع الأسرة وإثبات الذات.

ومن بين الارتدادات الأخرى، نجد انتشار المخدرات بمختلف أنواعها في صفوف التلاميذ. وتبيّن مؤشرات المعهد الوطني للصحة لسنة 2023 تضاعف استهلاك التلاميذ التونسيين للمخدرات بنحو خمس مرات خلال العقد الأخير (من 2013 إلى 2023) أي من 1. 3 في المائة سنة 2013 إلى 8.9 في المائة سنة 2023، وبيّنت عينة مسح قامت بها المؤسسة نفسها أنّ 2.16 بالمائة من التلاميذ المستجوبين المتعاطين يجدون سهولة في الحصول على مادة القنب الهندي (أو "الزطلة" حسب الاصطلاح المحلي) لاستهلاكها، في حين تقدّر نسبة استهلاك التلاميذ ولو مرة واحدة للأقراص المخدرة ثمانية في المائة.

ويعود انتشار تلك الظواهر، الأساسية والفرعية، إلى عوامل اجتماعية واقتصادية مختلفة وخاصّة إلى أزمة المنظومة التعليمية والسياسات الحكومية المتبعة المتمثّلة في تراجع الانفاق الحكومي على التربية والتعليم الذي عرف انخفاضًا حادًا خلال الفترة الممتدة بين عامي 2010 و2023: من حوالى 9.15% سنة 2010 إلى 10. 8% سنة 2022.

كما تقلّص عدد المدارس الإعدادية والمعاهد في بداية الألفية الثالثة (262 مؤسّسة) نتيجة لتقلّص عدد الطلبة الملتحقين بها لتعود لمنحاها التصاعدي من جديد منذ سنة 2009 لتبلغ 511 مؤسّسة في سنة 2023، أغلبها مدارس إعدادية جديدة تمّ إحداثها بعد الثورة غير أنّ ذلك لا يخفي الوضع الكارثي لجزء هام من المدارس والمعاهد، فرُبع المدارس غير مجهّزة بتجهيزات التصريف الصحيّ وغير مرتبطة بشبكة المياه (حسب أرقام الإحصاء المدرسي - وزارة التربية الدراسية 2022-2023)، وذلك بسبب تراجع الاعتمادات المرصودة للمدارس الأمر الذي ينعكس على البنية التحتية للمؤسّسات التربوية والتجهيزات والأدوات التعليمية ونفقات صيانتها وعلى تأمينها لتصبح فضاءً منفرًا للتلاميذ وطاردة لهم.

ومن التحديات التي تواجه النظام التعليمي في تونس، ارتفاع تكاليف التعليم التي لا تزال تشكل عبئًا ثقيلًا على الأُسر التونسية، فحسب "المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك" تضاعفت تكلفة العودة المدرسية للتلميذ الواحد من 425 دينارًا في 2019 إلى 800 دينار في 2024، وحسب المصدر نفسه، عرفت أسعار جميع مستلزمات العودة المدرسية، ارتفاعًا هذه السنة (أغسطس 2024) يتراوح بين 10% و12% بما يشمل الميدعة والمحفظة والكراس وغيرها من الأدوات المدرسية. وبشكل عام يمكن أن تصل كلفة العودة المدرسية لتلميذ المرحلة الابتدائية خلال السنة الدراسية 2024/2025 إلى نحو 700 دينار، فيما تقدّر كلفة العودة لتلميذ المرحلة الثانوية بـ815 دينارًا تونسي.

التعليم العالي والبحث العلمي أحد المؤشرات الأساسية التي تقيس مدى تقدّم المجتمعات

من ارتدادات أزمة المنظومة التعليمية استفحال ظاهرة التعليم الخاص في تونس، بعد الثورة خاصّة، إذ عرف هذا القطاع ارتفاعًا في عدد المدارس الخاصّة المرخّص لها بالنّشاط من قبل وزارة التّربية التونسيّة (بلغ عددها سنة 2023 نحو 724 مدرسة، بينما لم يتجاوز ذلك 100 مدرسة سنة 2010)، كما ارتفع عدد التلاميذ الملتحقين بتلك المدارس من 21 ألفًا سنة 2010 إلى نحو 122 ألفًا في سنة 2022 ووفقًا لمعطيات الإحصاء المدرسي لوزارة التربية الدراسية 2022-2023 يلتحق سنويًا تلميذ من بين 7 تلاميذ بالمدارس الخاصة بالرغم من ارتفاع تكلفته.

يُعتبر التعليم العالي والبحث العلمي أحد المؤشرات الأساسية التي تقيس مدى تقدم المجتمعات ونجاعة السياسات المتبعة التي تؤثر على مجمل حياة المجتمعات، وقد أولت الدولة التونسية منذ الاستقلال سياسة تعليمية ناجحة نسبيًا إلى حدود السبعينات. ولكن منذ نهاية ذاك العقد أصبحت المنظومة التعليمية رغم الإصلاحات المتعددة، الذي ما زال يعيش أزمة بنيوية شاملة متعدّدة الأبعاد والدلالات ذات علاقة بالأزمات العامة التي عرفتها البلاد. فما هي مظاهر ومؤشرات هذه الأزمة وأسبابها؟ وما هي حدودها؟.

لقد نجحت الدولة من خلال هذا القطاع في توفير موارد بشريّة ذات تكوين متميّز ساهمت في بناء البلاد كما مثّل التعليم العالي مصعدًا اجتماعيًا لفئات اجتماعية هشة من مختلف جهات البلاد. ورغم تلك النجاحات عرف القطاع العديد من العثرات مما دفع السلطة إلى القيام بعدة إصلاحات خلال السنوات 1986 و1989 و2000 و2008 و2015 كان هدفها تطوير القطاع وتعزيز جودة التعليم والإدارة الرشيدة (الحوكمة) والمساهمة في تحقيق تنمية مستدامة، في ظل أوضاع سياسية واقتصادية غير مستقرة وصعبة مرت بها البلاد ألقت بظلالها على المنظومة التعليمية عمومًا، والتعليم العالي والبحث العلمي خصوصًا، فأصبحت تعرف إشكالات هيكلية، منذ عقود، لم تفلح كل المشاريع الإصلاحية التي تم إقرارها إلى الآن من الخروج من الأزمة، إمّا لكونها محدودة وظرفية أو لغياب الدعم اللوجستي ولقلّة الموارد أو لإشكالات لها علاقة بالتسيير والحوكمة وغياب الجرأة السياسية لاتخاذ القرارات الحاسمة. 


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن