ليس الموقف الراهن للولايات المتحدة الأمريكية من الحرب في الشرق الأوسط، وهو موقف رافض لوقف القتال والأعمال العسكرية في فلسطين ولبنان، بغريب عليها .فالضوء الأخضر المقدم من إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية إلى حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية بالاستمرار في الاعتداءات المتكررة على قطاع غزة بهدف القضاء التام على القدرات العسكرية لحركة "حماس" وبمواصلة الهجمات على "حزب الله" في جنوب لبنان وفي بيروت وفي البقاع وفي مناطق متفرقة أخرى بهدف التخلص من سلاح "حزب الله".
هذا الضوء الأخضر يتسق في فحواه مع سياق تعويل الولايات المتحدة على إطالة أمد الحروب والأعمال العسكرية بين إسرائيل والأطراف العربية لكي تخرج تل أبيب من صراعاتها محققة أكبر قدر ممكن من أهدافها، ويظهر العرب في عواصمهم وفي المحيط الإقليمي مراراً بمظهر اللاعب المهزوم غير القادر لا على تحقيق بعض أهدافه ولا على فرض ولو بعض شروطه حين تتوقف النيران وتبدأ المفاوضات علنا أو سرا.
منذ الحرب الأولى بين إسرائيل والعرب في 1948، اتبعت الإدارات الأمريكية، ديمقراطية وجمهورية، استراتيجية إطالة أمد الاحتكام إلى السلاح لكي تضمن لحليفتها إما 1) الخروج بأقصى حد ممكن من المكاسب باحتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية وبإظهار تفوقها العسكري على العرب مجتمعين وبفرض إرادتها السياسية عليهم، أو 2) الحيلولة دون هزيمة الحليفة الأهم في الشرق الأوسط على نحو قد يهدد دورها الاستراتيجي في إقليم هام للمصالح الأمريكية وربما يهدد أمنها وبقاءها.
وسواء كان الهدف المراد من قبل واشنطن هو تمكين تل أبيب من التوسع الجغرافي ونقل حدودها بعيدا عن حدود البدايات التي تضمنها قرار التقسيم الأممي رقم 181 لسنة 1947 أو دفع العرب إلى إنهاء حالة الحرب والصراع دون الحصول على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ودون استعادة كافة الأراضي العربية المحتلة، فإن واشنطن عادة ما أرفقت إشارات الضوء الأخضر القادمة منها بمزيج من الضغوط الدبلوماسية والإمدادات العسكرية إما لحماية مكاسب حليفتها أو لتقليص خسائرها.
وإذا كانت الولايات المتحدة، من جهة، قد امتنعت عن تقديم السلاح والذخيرة لإسرائيل في 1948 وكان ذلك في إطار الحظر العام للإمدادات العسكرية الأمريكية الذي فرضته على كافة المتحاربين، وعارضت من جهة أخرى العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر في 1956 ووجهت إنذارها الشهير لقوات الدول الثلاثة بالانسحاب من الأراضي المصرية (ولم تكن هي القوة العظمى الوحيدة التي أنذرت، فقد أصدر الاتحاد السوفييتي السابق إنذارا أكثر حدة وهدد فيه باستخدام القوة العسكرية)، فإن الولايات المتحدة ومنذ منتصف ستينيات القرن العشرين صارت المورد الأول للسلاح والذخيرة لإسرائيل والمدافع الدبلوماسي الأول عنها في الأروقة الدولية، وشرعت واشنطن في التماهي الاستراتيجي شبه التام مع أهداف تل أبيب وسياساتها وممارساتها.
والشاهد أن الولايات المتحدة الأمريكية، وفي خضم الكثير من الأحداث والتفاعلات الإقليمية، لم تحرك ساكنا لمنع الهجوم العسكري الإسرائيلي على الدول العربية مصر والأردن وسوريا في 1967، ولم تمانع في استخدام سلاحها للاعتداء على العرب، وعطلت لعدة أشهر داخل أروقة الأمم المتحدة صدور قرار دولي يلزم إسرائيل بإنهاء احتلال الأراضي العربية وبالانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، وحين خرج القرار 242 عن مجلس الأمن في نوفمبر / تشرين الثاني 1967 كانت الدبلوماسية الأمريكية قد ضمنت غموض عباراته المتعلقة بالحدود التي يتعين على إسرائيل الانسحاب إليها وبالجداول الزمنية الملزمة المرتبطة به وحالت دبلوماسيتها في الفترة الممتدة بين 1967 و1973 دون أن تترجم مقتضيات القرار 242، على غموض عباراته، إلى تغيرات فعلية على الأرض.
أما في حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، فإن دور واشنطن انتقل من تقديم الإمدادات العسكرية الهائلة لتعويض خسائر تل أبيب في الأيام الأولى على الجبهتين المصرية والسورية، إلى تقديم المزيد من السلاح والذخيرة والمعلومات الاستخباراتية لإعطاء إسرائيل قدرات للضغط على الجيشين المصري والسوري وتقليص مكاسبهما في سيناء والجولان، ومنه إلى المماطلة الدبلوماسية الشهيرة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر تجاه الاتحاد السوفييتي السابق وتجاه الأطراف العربية في الأيام الأخيرة للحرب لتأجيل إصدار مجلس الأمن لقرار وقف إطلاق للنار (338) ثم لقرار “مناشدة” الأطراف الالتزام بوقف إطلاق النار (339) إلى أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من تعميق ثغرة الدفرسوار ومن إلغاء كافة مكاسب القوات السورية في الجولان.
وقد أظهرت حرب 1973 وبجلاء شديد ولم يكن ذلك الأمر بمنقطع الصلة عن طول أمدها النسبي مقارنة بحرب 1967، أظهرت بجلاء مرتكزات السياسة الأمريكية التي رغبت دوما في الحيلولة دون مكاسب عربية حقيقية في ميادين القتال ودون خسائر كبرى لإسرائيل على الجبهات العربية مطوعة في ذلك السلاح والذخيرة والدبلوماسية، وعملت على ضمان أن مكاسب قوية أو خسائر محدودة لحليفتها بعد توقف النيران والاحتكام إلى جولات الوسطاء وقاعات التفاوض.
وعلى الرغم من أن بعض المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين كان يربط بين مرتكزات سياسة واشنطن هذه تجاه الشرق الأوسط وبين الصراع العالمي بينها وبين موسكو ورغبة الولايات المتحدة في ألا يسجل للسلاح السوفييتي “انتصارات إضافية” على السلاح الأمريكي بعد انتصارات حلفاء السوفييت في فيتنام في الستينيات وانتصار الهند على باكستان المتحالفة مع الأمريكيين في حرب 1971، إلا أن الثابت أن واشنطن بإداراتها الديمقراطية (ليندون جونسون) والجمهورية (ريتشارد نيكسون) اعتبرت الدفاع عن بقاء وأمن إسرائيل والحفاظ على مكاسبها أو تقليص خسائرها بعد الحروب والأعمال العسكرية أهدافا حيوية لها في الشرق الأوسط ولا ينبغي ربطها دوما بصراعات ومواجهات القوى العظمى.
وعلى هذا، لم تراوح السياسة الأمريكية ثنائية تقديم السلاح والذخيرة وتوظيف الدبلوماسية لحماية الاعتداءات الإسرائيلية على العرب لا في الثمانينيات حين غزت تل أبيب لبنان واحتلت للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي عاصمة عربية وارتكبت ما وثقته المنظمات الدولية المعنية كجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في 1982 ضد المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين (صبرا وشاتيلا)، ولا في حرب 2006 على الأرض اللبنانية بين إسرائيل وحزب الله وفيها ارتكب أيضا ما وثق كجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بحق المدنيين اللبنانيين.
وليست سياسة الإدارة الأمريكية الحالية، إدارة بايدن، بثنائية تقديم السلاح والذخيرة لإسرائيل والامتناع عن التوظيف الجاد لقدرات واشنطن في الضغط على تل أبيب لكي تتوقف النيران في غزة وفي لبنان، سوى استمرار واضح لما عهده الشرق الأوسط من انحياز أمريكي صريح لإسرائيل على حساب الحقوق والمصالح العربية وعلى حساب الأمن الإقليمي. لن تضغط الولايات المتحدة الآن بغية إنهاء الحرب في غزة أو وقف إطلاق النار في لبنان، وعلى الأطراف العربية المعنية أن تتصرف وفقا لذلك دون أوهام.