ثقافة

المحدد العلمي والتقني في الانتكاسات العربية!

كان حضور العلم والتكنولوجيا والبحث العلمي والثورات الرقمية، أحد المحدّدات المؤثرة في وتيرة أحداث المشرق العربي خلال الأسابيع الأخيرة، من قبيل ما جرى في لبنان مع سلسلة الاغتيالات وبالأحرى ما جرى في قطاع غزّة منذ سنة ونيف، وليس صدفة أن نقرأ في منصة "عروبة 22"، بعض المقالات التي تطرقت إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في هذه الصراعات المفتوحة على المجهول، وليس صدفة أيضًا أن نعاين تقزيمًا أو تهميشًا لهذا المُحدّد العلمي/التقني في أغلب ما يصدر من قراءات حول الموضوع، سواء تعلّق الأمر بمقالات الرأي أو في تفاعلات الأسماء البحثية على مواقع التواصل الاجتماعي، كأنّ المسالة تندرج في باب الترف أو لا تستحق تسليط الضوء.

المحدد العلمي والتقني في الانتكاسات العربية!

موازاةً مع تزامن الذكرى الأولى لأحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول مع الإعلان عن الفائزين بجوائز نوبل في عدة حقول علمية، تأكّد الرأي العام العربي والعالمي بأنّ الذكاء الاصطناعي نفسه - وهو أحد تطبيقات الثورة الرقمية التي تعتبر بدورها تطبيقًا أو تجليًّا من تجليّات الثورة العلمية - كان حاضرًا في نتائج الجائزة نفسها الخاصّة تحديدًا بحقلي الفيزياء والكيمياء.

يُصنّف إنتاج الدول العربية في مجال "علوم الدنيا" في خانة الندرة بالرغم من وجود الطاقات البحثية الخام

وموازاةً مع هذه المستجدات والتطورات العلمية التي يعاينها العالم بأسره، وتعرف انخراط أغلب الدول وصنّاع القرار، لا يتجاوز تفاعل العقل الجمعي العربي مع جوائز نوبل، سقف النقاش الذي يتكرّر كل سنة، عنوانه حظ المنطقة في ظفر أحد أبنائها بجائزة نوبل للآداب، مقابل صرف النظر كليًّا عن إثارة أيّ نقاش بخصوص احتمال الفوز بجائزة نوبل في الاقتصاد أو في الطب أو الفيزياء أو الكيمياء.

معلوم أنّ الحديث عن الثورة العلمية يُحيل بالضرورة على مؤشر البحث العلمي هنا في الدول العربية، ومعلوم وزن مجمل هذه الدول في حقل البحث العلمي، وهذا أحد أهم الأسباب المؤثرة في هذه الحروب المستمرة، لكن شجاعة إثارة الموضوع لا زالت إمّا نادرة أو متواضعة، وفي الحالتين معًا، نحن إزاء مأزق نظري له تبعات على السلوك وبالتالي على عمل الدول العربية بأنظمتها وحكوماتها.

لو قارنا بين ما يصدر من أعمال في مجال "علوم الدين" بالتحديد، في مجمل الدول العربية، مقارنةً مع ما يصدر من أعمال في مجال "علوم الدنيا" (الطب، الفيزياء، الكيمياء، الاقتصاد، علم النفس، الصيدلة، واللائحة تطول)، سوف تخلص أبسط مقارنة إلى وجود فوارق صريحة بين المجالين، ومن ذلك أنّ الدول العربية إجمالًا لا تعاني من خصاص في الأولى، بدليل كثرة المعاهد الدينية وفورة الإصدارات والندوات والمحاضرات التي تدور في فلك الإسلاميات، وهذا أمرٌ طبيعيٌ أخذًا بعين الاعتبار خصوصية المسألة الدينية في السياق العربي الإسلامي، إضافة إلى أنّ وظيفة مجمل هذه المؤسّسات، وخاصّة المؤسّسات الدينية التابعة للدولة الوطنية الحديثة، لا تخرج إجمالًا عن الوعظ والتوجيه والإرشاد.

لكن الأمر مختلف كليًّا مع إنتاج الدول العربية في مجال "علوم الدنيا"، حيث يُصنّف الإنتاج في خانة الندرة، بالرغم من وجود الطاقات البحثية الخام، إضافة إلى ثقل ميزانيات مالية فلكية تتميّز بها العديد من الدول العربية، وتقف على سبيل المثال لا الحصر، وراء تلك الاستثمارات الضخمة لبعض المسؤولين العرب في حقل الرياضة على الصعيد الأوروبي، حتى إنّ بعض الفرق الكروية في أوروبا، أصبحت عمليًا تابعة لهذه الدول العربية أو تلك، وخاصّة بعض دول الخليج العربي.

وما يُعقّد الصورة أكثر، أن يعاين المواطن العربي بين الفينة والأخرى، فوز مواطن عربي بإحدى جوائز نوبل، ولكن ليس باسم أيّ دول عربية، وإنّما باسم دول غربية احتضنته ووفرت له الظروف الموضوعية للكد العلمي، كما جرى مع الثنائي أحمد زويل (أمريكي من أصل مصري، فائز بجائزة نوبل في الكيمياء، سنة 1999)، أو منجي الباوندي (فرنسي من أصل تونسي، فائز بجائزة نوبل للكيمياء، سنة 2023).

في مقدّمة أسباب التقاعس العلمي العربي معضلة بنيوية عنوانها تواضع الإرادة السياسية

قد يعترض قارئٌ بأنّ الأسباب الوازنة في هذه الانتكاسات العربية مردها التواطؤ الغربي أو اللامبالاة العالمية وما جاور هذين المحدّدين، والحال أنّ ترويج هذا الاعتراض، على وجاهته، يُساهم في صرف النظر عن تخلف العقل العربي الجمعي بخصوص ولوج عالم "اقتصاد المعرفة"، الذي يوجد هو الآخر ضمن الأسباب نفسها، إلّا أنّ إثارة هذه الجزئية، لا زالت في مقام اللامفكر فيه، إن لم تكن في مقام "التابو"، لأنّه من شأن الخوض فيها، فتح أبواب المساءلة عن أسباب هذا التقاعس العلمي، بالرغم من وجود الطاقات العلمية ووفرة الميزانيات الفلكية، وفي مقدّمة هذه الأسباب، معضلة تكاد تكون بنيوية، عنوانها تواضع الإرادة السياسية، حتى لا نتحدث عن غيابها.

الكرة في مرمى صنّاع القرار العربي، قبل أن تكون في مرمى صنّاع القرار في إسرائيل وإيران وأوروبا وأمريكا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن