بصمات

واقع الأسرة العربية في ظل التحولات المجتمعية والاقتصادية الراهنة

عرفت المجتمعات العربية خلال العقود القليلة الماضية تحوّلات كبيرة على مستوى الهندسة الاجتماعية، حيث شهدت، وبشكل متفاوت، تفككًا تدريجيًا للبنيات التقليدية كالأسرة الممتدة والقبيلة اللتان عُوِضتا بالأُسر النووية، وهو ما أسهم في تعاظم النُزوعات الفردانية والانعزال داخل المجتمع، عززتهما التحولات الاقتصادية والتغيرات التي طالت أنظمة وأنماط العمل وطرائق الاستهلاك التي شهدها العالم العربي خلال الفترة التي تلت استقلال معظم بلدانه عن الاستعمار وصولًا إلى الزمن الراهن.

واقع الأسرة العربية في ظل التحولات المجتمعية والاقتصادية الراهنة

لقد سرّعت هذه التحولاتٌ تلاشي المنظومة الاقتصادية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية التي كانت قائمة على بُعدين:

بُعدٌ معيشي تُشكله مجموعة من القطاعات الفلاحية والخدماتية والحرفية المتماهية مع الهندسة الاجتماعية التقليدية لمعظم المجتمعات العربية؛ وبُعدٌ آخر متطورٌ مرتبطٌ بالاقتصاد الاستعماري الذي كان موجهًا لخدمة مصالح الدول المستعمرة يشتمل على قطاعات عديدة، كالقطاع المنجمي والفلاحي الموجه نحو التصدير الخام، حيث لم تسعَ معظم هذه الدول إلى إرساء قواعد اقتصاد عصري حقيقي مواكب للتطورات الصناعية والتكنولوجية لتلك الحقبة.

تسارعت عملية التعرية القيمية وتلاشي المنظومة المجتمعية التقليدية لصالح تراتبية مجتمعية جديدة

إنّه الأمر الذي حذا بمعظم دول المشرق العربي، بخاصة مصر وسوريا والعراق، وكذلك بعض دول المغارب كالجزائر والمغرب، إلى السعي لتطوير اقتصادها بعد الاستقلال بما توفر لديها من إمكانيات وبما ورثته عن الحقبة الاستعمارية من هيكلة اقتصادية وأدوات إنتاج، حيث اختلفت التوجهات في هذا الصدد وتضاربت في أحايين كثيرة وذلك ارتباطًا بتأثير سياق الحرب الباردة على الاختيارات الاقتصادية للدول العربية، وهي الاختلافات التي سرعان ما تلاشت بعد خفوت حِدّة الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشرقي وتبني معظم الدول العربية للنهج الاقتصادي الرأسمالي الصريح.

بالموازاة مع هذه التحولات الاقتصادية، تسارعت عملية التعرية القيمية وتلاشي المنظومة المجتمعية التقليدية لصالح تراتبية مجتمعية جديدة، وأنموذج أُسريّ يمتح من القيم الكونية قائم على توزيع جديد للأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسرة والمجتمع، مع تعريفٍ جديدٍ لأدوار مختلف الفاعلين المجتمعيين والاقتصاديين، كالدولة والأحزاب السياسية والجمعيات المدنية والشركات الخاصّة والأسرة والقبيلة، وهو تعريفٌ صاحبه تبني مفاهيم وتصورات جديدة للتديّن والحرية والعلاقات الإنسانية.

تلاشي منظومة القيم المحلية وهيمنة أنماط الاستهلاك الغربية

لقد أحدثت التحولات التكنولوجية والاقتصادية والثقافية نقلةً كبيرة على مستوى تداول القيم داخل المجتمعات العربية، بموجبها عوضت القيم الكونية شيئًا فشيئًا منظومة القيم المحلية وفتحت الباب أمام تدفق قيمي وثقافي وحضاري كبير قلّص ارتباط الأجيال الراهنة بمنظوماتهم القيمية الأصلية، وذلك في ظل عجز منظومة التربية والتعليم العربية عن مواكبة هذه التحولات، وكذلك في ظل ضعف وترهل المشهد الإعلامي وتراجع الإنتاج الثقافي العربي المشترك، الأمر الذي جعل الأسرة العربية مجرد مستهلكة نهمةٍ لقيم ومفاهيم مستوردة لم تُسهم بشكل مباشر في إنتاجها ولم يُراعَ في صياغتها خصوصيات النشأة ولا اختلاف الجذور الثقافية والقيمية.

لقد أدى انخراط معظم الدول العربية في موجة التحديث والتطوير لأنماط العمل والإنتاج والاستهلاك والتواصل والتعليم والتثقيف، إلى إحداث تغيرات عميقة على المشهد الديموغرافي العربي نجم عنها تراجع كبير في معدلات الخصوبة واختلال ظاهر للتوزيع المجالي، عبر انتقال جزء كبير من ساكنة العالم العربي للعيش خارج مجالاتهم المعتادة (الهجرة القروية – التكتل في أقطاب حضرية كبرى – الهجرة إلى الخارج).

هذا الانتقال كان مصحوبًا بالخروج من منظومة تقليدية كانت مطبوعة بهيمنة القبيلة والأسرة الممتدة وأنماط الإنتاج والاستهلاك المحلية، وسيادة مبادئ وقيم التكافل والتضامن وتحمل الأعباء الاجتماعية بشكل مشترك، نحو منظومة تهيمن عليها الأسرة النووية والأنشطة المهنية المستخدمية القائمة على نمط الإنتاج الليبيرالي وثقافة الاستهلاك الغربية والعزلة المجتمعية، وهو انتقال صاحبه أيضًا تغيّرٌ طال أنماط اللباس والتغذية والسكن والترفيه والتثقيف، وحتى العلاقات بين الجنسين أضحت تحتكم إلى قواعد هندسة جديدة تنهل أكثر فأكثر من المشترك الكوني عوض التقليدي المحلي، وتنفتح على علاقات أكثر تحرّرًا وتقبل تنظيمات مجتمعية لم تكن مألوفة كالأسرة الأحادية والأمهات العازبات، وهي تشكيلات أسرية يصعب معها تصور نظام رعاية أسري متكامل دون تدخل خارجي عبر مؤسّسات الدولة أو المجتمع المدني، وهو الأمر الذي ضاعف أعباء الدول التي اضطرت إلى تأسيس أنظمة جديدة للحماية الاجتماعية والتربية والتعليم والتكوين بُغية تعويض عجز الأسر عن القيام بمهامها الاساسية.

منظومة اقتصادية ليبيرالية كانت أحد البواعث الرئيسية لهذا التحول المجتمعي العميق الذي شهده العالم العربي

لقد دفعت هيمنة التوجهات القيمية الكونية، والتحولات التي طالت أنماط الإنتاج والاستهلاك باتجاه إضعاف دور الأسرة والقبيلة، خاصّة على مستوى الرعاية الاجتماعية، وكذلك باتجاه تسريع تلاشي النموذج التراتبي الأبوي القائم على الأسرة الممتدة، وتكريس تسييد قِيم الفردانية وتعاظم الوعي بالحريات الفردية، كما أرست قواعد توزيع جديد للأدوار بين الرجل والمرأة داخل البيت والعمل وداخل الفضاء العمومي، وهو ما أسهم في إحداث تأثير عميق طال العقليات والمفاهيم والمنطلقات ومنظومة القيم وأنماط الاستهلاك والعمل، التي تمتح كلها من منظومة اقتصادية ليبيرالية كانت أحد البواعث الرئيسية لهذا التحول المجتمعي العميق الذي شهده العالم العربي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن