لما كان الاهتمام بالعروبة لا بد له من بيئة مواتية تتفاعل معه بشكل إيجابي، أتصوّر أنّ أحد الأهداف الكبرى للموقع هو الحفاظ على الفكرة العربية حيّة في عقول وقلوب الأجيال الجديدة التي هي جزء من الحاضر وكل المستقبل.
العروبة تتعرض لمختلف أشكال القدح والطعن والتشكيك، وتزاحمها أُطر إقليمية ودولية
فإذا كانت أجيال الخمسينيات والستينيات قد انحازت للعروبة لأنها وجدت نفسها في بيئة مفعمة ليس فقط بالفكر القومي العربي وبالقيادة الكاريزمية العربية، لكن كذلك بالفعل الوحدوي العربي الذي بلغ ذروته بوحدة مصر وسوريا، فإنه ليس من العدل - فضلًا عن أنه ليس من المنطق - أن نطالب الأجيال الجديدة بأن تكون عربية التوجّه في بيئة مختلفة بالكُلية عن بيئة الخمسينيات والستينيات.
هذه البيئة تتعرّض فيها العروبة لمختلف أشكال القدح والطعن والتشكيك، وتزاحمها أُطر إقليمية ودولية مختلفة المآرب، وتتراجع لغتها الأم أمام هجمة اللغات الأجنبية عمومًا واللغة الإنجليزية خصوصًا التي هي لغة الحاسب والمحمول والذكاء الاصطناعي في المجمل. وذلك كلّه بالطبع دون الحديث عن أثر الانقلاب الحاد في المعتقدات السياسية التي تربّت عليها الأجيال القديمة والتي شكّلت نظرتها للمشروع الصهيوني باعتباره مشروعًا ينطوي على تهديد وجودي للأمن القومي العربي بل وللعرب أنفسهم.
لذلك فإنه من الجيد جدًا أن يحافظ موقع "عروبة ٢٢" على حيوية الفكرة العربية لدى الأجيال الشابة من خلال جذب تلك الأجيال للتفاعل مع القضايا / التحديات الأساسية للعروبة، والتشارُك معها في تقديم رؤى وأفكار تصلح للتعامل مع تلك القضايا أخذًا بعين الاعتبار متغيّرات القرن الحادي والعشرين.
العروبة الثقافية تواجه تحديات تظهر في التنافس على القوة الناعمة بين دول المنطقة
ومن المفهوم أن هناك قائمة كبيرة من القضايا التي تحتاج إلى التفاكر حولها بين كتّاب الموقع والمترددين عليه خصوصًا من الشباب، ومن تلك القضايا ما يمكن وصفه بجوهر العروبة وماهيته، وذلك بعد أن وقع الانتقال من الجوهر السياسي للعروبة في فترة المدّ القومي إلى جوهرها الاقتصادي الذي بلغ ذروته بمؤتمر قمة عمّان ١٩٨٠، ثم إلى جوهرها الثقافي بالدعوة الراهنة للتركيز على المشتركات الثقافية.
لكن هذه العروبة الثقافية رغم أنها تبدو أقل استفزازًا لخصوم العروبة من نظيرتيها السياسية والاقتصادية، إلا أنها تواجه بدورها تحديات تظهر في التنافس على القوة الناعمة بين دول المنطقة وتؤدي لاستقطاب لا تنجو منه الشعوب العربية، ونلمسه على وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا يثور السؤال عن السبيل للتمسك بالحد الأدنى من العروبة.
كذلك هناك القضية المتعلقة بتفاعُل العروبة مع محيطها الإقليمي وبكيفية إدارة العلاقات العربية مع كلٍ من تركيا وإيران على نحو يحافظ على التوازن ما بين الانفتاح على هاتين الدولتين من جهة والحفاظ على تمايز الهوية العربية من جهة أخرى، ولا يضطرنا للاختيار ما بين السيادة على أرضنا وقراراتنا والعلاقات الطبيعية مع جوارنا الجغرافي.
كيف يمكن الدفاع عن العروبة قبل الانتهاء من بناء الدولة الوطنية الديمقراطية العربية الحديثة؟
هذه القضايا إذن موجودة ومطلوب إدارة نقاش من حولها، إلا أنني أعتبر أن القضية الأكثر إلحاحًا في الأجل القصير هي تلك التي تتعلّق بكيفية إيجاد طريقة لإدارة جيدة للتنوع الاجتماعي الكبير الذي تزخر به دولنا العربية. فمن غير الممكن أن نفكّر في اجتذاب الأجيال الجديدة للعروبة فيما الدول العربية غارقة في صراعاتها الداخلية على أسس مذهبية ولغوية وعرقية وقبلية، بل وفيما أدّى تعالي الدول العربية على تنوعها الديموجرافي أو تجاهله إلى تفكيكها أو وضعها في مرمى التفكيك.
ولا يخفى على كتّاب هذا الموقع، وكلّهم من ذوي القامات الثقافية الرفيعة، أنه ما من مرّة تُناقش فيها قضية الحرب في اليمن أو سوريا أو السودان، أو يثار موضوع الاستقطاب الحاصل في العراق أو لبنان أو ليبيا إلا ونستمع إلى الحاجة لبناء الدولة الوطنية، فكيف يمكن الدفاع عن العروبة قبل الانتهاء من بناء الدولة الوطنية الديمقراطية العربية الحديثة؟ من هنا نبدأ، وهذا هو طرف الخيط الذي سأمسك به في مقالي التالي بإذن الله.
(خاص "عروبة 22")