وجهات نظر

لماذا سيعيش السنوار طويلًا؟

كأن الشاعر الفلسطيني محمود درويش يخاطب رجلًا لم يره، ويروي واقعة لم يعاصرها عندما أنشد لأول مرة في قاعة بيروتية قصيدته الملحمية "مديح الظل العالي": "حاصر حصارك.. لا مفر، سقطت ذراعك فالتقطها! وأضرب عدوك.. لا مفر، وسقطت قربك، فالتقطني! واضرب عدوك بي، فأنت الآن حر!".

لماذا سيعيش السنوار طويلًا؟

كانت تلك صورة تخيلية أراد بها وصف الأجواء الخانقة، التي تخيّم على مستقبل القضية الفلسطينية، داعيًا إلى المقاومة بالأظافر والأيادي المكسورة، فيما الحصار يشتد على بيروت لإنهاء وجود منظمة التحرير والأقنعة تسقط عن الوجوه واحدًا إثر آخر.

"سقط القناع عن القناع، سقط القناع، لا أخوة لك يا أخي".. لم يدرِ أنّ ما تخيّله شعرًا قبل إجبار منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة بيروت في أغسطس/آب (1982) سوف يحدث واقعًا في أكتوبر/تشرين الأول (2024) عند استشهاد يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، في ذروة حرب تستهدف اجتثاث القضية الفلسطينية شعبًا وأرضًا.

فكرة التضحية في سبيل قضية عادلة حتى الرمق الأخير تلخصت بالصور التي التقطها قاتلوه

في الحساب الأخير، فإنّ هجوم السابع من أكتوبر (2023) الذي خطط له وقاده، رغم كل التضحيات والآلام الهائلة، أعاد إحياء القضية الفلسطينية بعدما كان الظن أنها دخلت دفاتر النسيان واستدعت تضامنًا شعبيًا وطلابيًا غربيًا معها لم يكن متصورًا.

فكرة التضحية في سبيل قضية عادلة حتى الرمق الأخير تلخصت بالصور التي التقطها قاتلوه، مقاتلًا جسورًا ببندقية كلاشينكوف وقنابل يدوية دون حراسة تفترضها قيادته للمقاومين، فوق الأرض لا في نفق يختبئ فيه وراء أسرى ورهائن.

بذراعه المصاب ألقى عصا على مسيّرة صغيرة حلقت فوقه تستكشف المكان.

الصور فندت الدعايات الإسرائيلية، التي حاولت شيطنته ووصمه بالإرهاب.

"أنا يحيى السنوار، لن نتعرض لكم بسوء وأنتم في أمان هنا".. كانت تلك رسالة زعيم "حماس" للأسرى الإسرائيليين المحتجزين في أنفاق غزّة، كما نقلها من أفرج عنهم بالصفقة الأولى.

استدعى مشهد استشهاده بتفاصيله الإنسانية والسياسية إلى الذاكرة العامة صورة الزعيم الأممي "أرنستو تشي جيفارا".

لم يقصد الإسرائيليون تكريم "السنوار" بإذاعة الشرائط المصورة، أرادوا العكس تمامًا، غير أنّ النتائج جاءت على عكس ما تصوروا.

"تسقط الأجساد لا الفكرة.. المقاومة فكرة والفكرة لا تموت".. كانت تلك عبارة ملهمة للروائي الفلسطيني اليساري غسان كنفاني، الذي اغتالته إسرائيل في بيروت.

"يا إلهى إنه يشبه المسيح".. هكذا صرخت سيدة ريفية رأت "جيفارا" مقتولًا وجثته ملقاة في حقل بأحراش بوليفيا.

لم تكن تعرف من هو.. ولا ما قضيته.. ولا لماذا قُتل على هذا النحو البشع؟

كل ما استلفت انتباهها قدر العذاب الإنساني على وجهه وسكينة الروح التي أُزهقت، كأنه مسيح جديد قد صُلب.

فكرة "المسيح المعذب" واحدة من أكثر الأفكار المعاصرة إلهامًا في الضمير الإنساني.

لم يكن "أرنستو تشي جيفارا" قد لقي مصرعه عندما صاغ تلك الفكرة الروائي اليوناني "نيكوس كازانتزاكيس" في رائعته "المسيح يُصلب من جديد".

الفكرة نفسها تتجلى في العذاب الفلسطيني، الذي يبدو بلا نهاية ـ "مسيح وراء مسيح وراء مسيح"، كما أنشد شاعر العامية المصري عبدالرحمن الأبنودي.

بعد خمسين سنة من اغتيال "جيفارا" وقف الرئيس البوليفي الأسبق "إيفو موراليس" بقرية "فيلاجراندي"، التي اغتيل فيها الثائر الأرجنتيني، ليوجه اتهامًا مباشرًا للاستخبارات الأمريكية بأنها "اضطهدته وعذبته وقتلته بموافقة الرئيس البوليفي رينى بار منتوس".

مَن "ريني بار منتوس"؟! لا شيء، فهو جملة عابرة في التاريخ لا يذكر اسمه إلا مقرونًا بجريمة الاغتيال.

الضحية عاشت والقاتل محض نكرة. بعد خمسين سنة قال التاريخ كلمة أخرى في بوليفيا، لكنه لن ينتظر هنا في منطقتنا العربية فعواقب حرب الإبادة والاجتثاث سوف تفضي باليقين إلى زلازل سياسية لا حدود لها تزيح نظمًا وتنهي سياسات، إذا لم يكن اليوم ففي المدى المنظور، كما حدث بالضبط بعد نكبة (1948).

من مفارقات التاريخ أنّ "جيفارا" زار غزّة عندما كانت تحت الإدارة المصرية وأبدى تضامنًا كاملًا مع الحق الفلسطيني المهدر.

ربما مر بالقرب من مخيم خان يونس حيث ولد يحيى السنوار عام 1962.

كانت القاهرة في ذلك الوقت منارة إلهام لحركات التحرير بالعالم الثالث.

عندما كان مع رفيقيه "فيدل" و"رائول كاسترو" فوق جبال "سيرا ماستيرا" يتأهبون لاقتحام العاصمة الكوبية "هافانا" بدا صدى صوت جمال عبدالناصر ملهمًا وهو يعلن المقاومة: "سنقاتل" أثناء حرب السويس (1956).

كان النموذج المصري موحيًا بالأمل، فقد تمكنت دولة من العالم الثالث، استقلت بالكاد، من أن تؤمم "قناة السويس" وأن تتحدى الإرادات الغربية، وأن تصمد في المواجهات العسكرية، وأن تخرج المستعمرة القديمة إلى العالم لاعبًا رئيسيًا على مسارحه تمتلك قرارها ومصيرها.

اللافت في قصة "جيفارا" أنّ صورته في التاريخ فاقت حجم دوره.

لماذا عاش "تشى جيفارا" طويلًا في الذاكرة الإنسانية؟ ببساطة لأنه لخص في شخصه وتجربته "قوة النموذج الإنساني"، دعته فكرة الثورة إلى الحرب في كوبا، وعندما انتصرت غادر السلطة سريعًا حتى استقرت به مقاديره في أحراش بوليفيا، التي لقي مصرعه فيها مصلوبًا.

سوف تعود جثته إلى تراب غزّة رمزًا لكرامتها وإصرار أهلها على التشبث بالأرض رغم حروب الإبادة والتجويع

بعد اغتياله بسنوات طويلة نقل رفاته إلى مدينة "سانتاكلارا" في كوبا، مهد ثورتها، حيث دفن تحت رعاية زعيمها الراحل "فيدل كاسترو" باحتفال يليق باسمه.

قبل ذلك انتدب شبان من القارة أنفسهم لتعقب كل من ساهم في اغتياله.

لا أحد يعرف إلى أي حد جرى التنكيل بجثة "السنوار"، لكنها سوف تعود يومًا إلى تراب غزّة رمزًا لكرامتها وعزتها وإصرار أهلها على التشبث بالأرض رغم حروب الإبادة والتجويع.

سوف يبقى في ذاكرة التاريخ نموذجًا لمعنى أن تكون مقاومًا من أجل قضية عادلة.

بصياغة شيخ الأزهر الجليل أحمد الطيب: "المقاومة والدفاع عن الوطن والأرض والقضية والموت في سبيلها شرف لا يضاهيه شرف".

إنه شرف لا يعرفه الذين يشمتون في دماء الشهداء.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن